كتاب عربي 21

"تجفيف المنابع".. وعودة المنوال القمعي

محمد هنيد
1300x600
1300x600
في تونس تتجه الدولة العميقة بعد الانتصارات التي حققتها على حساب المدّ الثوري وعلى ربيع 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 نحو استكمال المشروع التجفيفي الذي دشنه "بورقيبة" 1956 1987 ورسخه "بن علي" 1987 2010.

فعزل الولاة والمعتمدين ومختلف المسؤولين الذين عينتهم ثورة الحرية ومجموع الانتخابات التي لحقتها وتعويضهم بمسؤولين من النظام القديم إنما تدخل في إطار استعادة المجال التنفيذي والسياسي للدولة العميقة. 

هاته الدولة التي وضع أسسها وضبط حدودها الحقيقية النظام الدولي ومجموع القوى العالمية والمؤسسات المرتبطة به "كصندوق النقد الدولي" و"البنك العالمي" وغيرها من الأدوات والأذرع الاستعمارية الضاربة هي التي أحيت دولة العمق ومكنت الثورة المضادة من الانتصار في كامل مجال الربيع العربي -باستثناء ليبيا التي لا تزال تقاوم- وساعدتها على العودة إلى السطح بسرعة كبيرة.

الأداة التنفيذية السياسية ليست هدفا في ذاتها بقدر ما هي وسيلة لتحقيق الأهداف التي من أجلها ضخّت القوى الدولية والإقليمية أموالا طائلة في سبيل الإطاحة بما أنجزته الثورات.

اليوم تنكشف واجهة الأهداف الرئيسية لثورات العرب المضادة وعلى رأسها تفعيل الآليات القديمة التي وضعها النظام الاستبدادي العربي في شكله السابق للانفجار التونسي الكبير. 

"تجفيف المنابع" برنامج استئصالي قديم ميز النسق الاستبدادي لنظامي "الوكالة الأولى" "لبورقيبة" و"الوكالة الثانية" "لبن علي" وتلخّص في محاربة الأسس التي ترتكز عليها الهوية الوطنية في تونس بقطبيْها اللغوي والعقائدي وبمستوياتها القيَمية والثقافية والأخلاقية السلوكية بما هي القاعدة الصلبة والمرتكز الأساسي للمجتمع وللفرد. 

تجلى البرنامج عمليا في محاربة التدين وإغلاق المساجد الذي شمل أقدم جامعة في العالم الإسلامي وأول جامعة في العالم ـ بدأ التدريس فيها سنة 120 هجرية ـ وهي "جامعة الزيتونة" التي منها تخرج كبار العلماء والمفكرين والمصلحين في تونس وفي كامل المنطقة العربية الإسلامية كابن خلدون و"سالم بوجاجب" و"الطاهر الحداد" و"أبو القاسم الشابي". 

وشمل البرنامج محاربة شرسة للغة العربية عبر تفعيل الجهاز اللّهجي المركزي للعاصمة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وحتى المكتوبة ومنع التعدد اللهجي وتشجيع اللغات الأجنبية في سن مبكرة، وخاصة الفرنسية، على حساب اللغة الأم التي تربط المجتمع التونسي بمحيطه العربي الإسلامي، وهو ما يمنع الناشئة من تأصيل علاقتها بلغتها  التي هي أمتن الروابط الواصلة بين الفرد والعالم. 

البرامج الدراسية بمختلف مستوياتها من المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية كانت قائمة على تقزيم دور العربية كفاعل ثقافي أساسي مما منع تأصيل الأدوات المعرفية و تجديد القنوات التوصلية للغة الأم وخلق أجيال كاملة تعاني عطبا لغويا كبيرا هو أقرب إلى العطالة اللغوية منه إلى التمكن من الازدواجية اللسانية.

هذه العطالة اللغوية هي في حقيقة من أخطر الأسباب الدافعة نحو الانبتات ونحو فقدان الحصانة السيادية لسانيا وقيميا مما يخلق لدى الفرد والمجموعة شعورا بالدونية وبتفوق الآخر وهو أول مداخل الغزو الحضاري والثقافي الذي نحصد أشواكه اليوم في تونس. 

الجانب الرمزي والثقافي العام في المجتمع من أغنية ومسرح وسينما ورسم وكل الأشكال التعبيرية الفنية الأخرى لم تسلم من برنامج "التجفيف" حيث دفعت هاته المستويات بالتغريب إلى أقصى درجاته ولم تحافظ من الموروث الوطني على غير بعض العناصر والتجليات الفلكلورية التي كانت توهم بالانتماء وبالمحافظة على الهوية الوطنية.

حرب التجفيف تمخضت في تونس بعد ثورة الحرية 17 ديسمبر 2010 عن صحراء قاحلة تركها الوكيلان الأول والثاني وانكشفت عن أجيال التيه التي دمرها اليأس والضياع قبل أن تفتك بها البطالة والتضخم وخيارات اقتصاد السوق التي فرضها صندوق النقد الدولي على "المستعمرة المتوسطية الصغيرة".

"الخلايا الجهادية" و"المجموعات التونسية المقاتلة" في الداخل أو الخارج التي صعد نجمها بعد الثورة ليست في نهاية الأمر سوى نتيجة منطقية وحتمية لبرنامج "تجفيف المنابع" الشهير، حيث دفعت سياسة النظام الاستبدادي في تونس بالشباب دفعا نحو التطرف والعنف بسبب انعدام هامش الحرية وغياب الفاعل التربوي المتوازن وفقدان منولات التأصيل الثقافي والترسيخ القيمي. 

حرب الاستبداد على قيم المجتمع ولغته هي في الحقيقة حرب على المقاومات والشروط التي تعجل بنسف الاستبداد وتمنع تأبده لأن الوعي الناتج عن القيم الأصيلة المانعة للغزو اللساني والثقافي لا يسمح للفرد والمجموعة بالتعايش مع قيم الاستبداد والتسلط والقمع المناقضة لمبادئ الحرية والعدل وحق الاختلاف.

اليوم وبعد فوز الدولة العميقة بالانتخابات التونسية الأخيرة وتمركزها في مختلف المواقع السيادية شرعت في مواصلة النهج القديم عبر إعادة تفعيل آليات الاستئصال وبرامجه التجفيفية الكفيلة باستعادة صحراء الاستبداد. عزل الأئمة وإغلاق المساجد ومحاربة مظاهر التدين والتضييق على الحريات العقائدية هي الخصائص المميزة للمشهد التونسي اليوم وهو مشهد يستعيد خصائص حقبة "نوفمبر" السوداء عندما كان نظام الشرطي "بن علي" في أوج بطشه بالشعب ومكتسباته الحضارية.

المشهد الجديد يؤكد بجلاء حالة الانحسار التي يعرفها المدّ الثوري على مستوى السطح والسعي المحموم والمستعجل لقوى الثورة المضادة من أجل اكتساح كامل المساحة التي رسمها شهداء ربيع تونس بدمائهم في سبيل كرامة الفرد وحريته.

هذا السعي المحموم لتصفية المنجز الثوري يعجّل في الآن نفسه برسم الوعي الجديد القادر وحده على تفعيل شروط الموجة الثورية الثانية وهي موجة محملة بالوعي بشراسة الثورة المضادة وبوقاحة دولة الأعماق التي لا تنفع معها المصالحة ولا يجدي معها الوفاق لأن طبائع الاستبداد كما قال الشيخ الكواكبي لا تزول إلا بزوال شروطه.
التعليقات (2)
ال?طاري
السبت، 19-09-2015 08:21 ص
سيّد هنيد أحترم فيك ثوريّتك و حبّك لوطنك و لكن هذا لا يبرِّر مبالغتك في شيطنة حكّام تونس اليوم سيما و أنّ نصف الشّعب قد إصطفّ قسرا أو عن طواعية إلى جانب هؤلاء. يعني ذلك أنّ المشهد السياسي التّونسي اليوم هو إفراز لصيرورة إجتماعية و ثقافيّة دأبت عليها تونس منذ أربعينيّات القرن الماضي: تجهيل - تمييز - جهويّة ... إذن أنا لا أستغرب ضحالة ما آلت إليه الأمور في تونس. إذن، دعني أبدي لك بعض التّصحيحات لبعض المصطلحات التي أسأت بلورتها في مقالك: ما تُسمّيه "الدّولة العميقة"، هو في الأصل تعبير خارج التّاريخ بإعتبار أنّ هذه الدّولة (العميقة) لم تكن يوما كذلك حتّى إبّان فترة "حُكم" التّرويكا، فقد كانت دوما على السّطح تأمر و تنهي. و لو كان ما تدّعيه صحيح ، فكيف يظهر على السّطح ما هو عميق في ظرف وجيز و يقلب بذلك كلّ الموازين و تُسبب الثّورة من أصحابها. ما نراه اليوم هو فقط إنتصارا للباطل على الحقّ بمباركة "تجّار الدّين" و أصحاب رأس المال الفاسد. و هو ما إنجرّ عنه "عُقم الدّولة" و ليس "عُمق شقّ منها". أمّا عن مسألة "تجفيف المنابع"، هذه العبارة هي الأخرى خارج سياقها التّاريخي و الواقعي. فمتى كانت هناك منابع أصلا ؟ إبّان "الإيالة" التّونسيّة زمن الرّجل المريض كانت حركة الإصلاح محتشمة و أحيانا و عمياء أحيانا أخرى، و لك في برنامج خير الدّين التّونسي- القوقازي خير دليل على التّصحّر الثّقافي الذي أُبتليت به تونس في التّاريخ الحديث. و ما نراه اليوم من تدنّي لمستوى النُّخب في تونس (سياسية و مثقّفة على حدّ سوى) إلى درجة استدعي الإشمئزاز لتعفّنها ، ما هو إلاّ دليل على إنعدام وجود "منابع الفكر و التّنوير" في تونس "المصالحة". يجب على التّونسي إستغلال سهولة تداول المعلومات في العصر الحاضر لكسر قيود كبح الحريّة و عدم الإنصياع لإملاءات تُجّار الدّين و الخمور.
عدنان
الجمعة، 18-09-2015 04:59 م
ألف شكر يا أستاذ