أي مستقبل ينتظر فريق البارشا ومعه عشاقه حول العالم لو تحقق ما يصبو إليه رئيس
كتالونيا ارتور ماس، الذي أعلن مساء الأحد الماضي "البدء باتخاذ الخطوات اللازمة لبناء ولاية كتالونيا المستقلة"؟
قد لا يكون هناك من سؤال أكثر مباشرة من هذا لقياس درجات الزلزال السياسي الذي أفرزته الانتخابات الكتالونية الأخيرة.
فقد أشارت النتائج إلى أن تحالف لائحتي "معا من أجل نعم" و"الوحدة الشعبية" المؤيدتين للانفصال عن إسبانيا حصلتا على 72 مقعدا من أصل 135 مقعدا في البرلمان المحلي.
وكان التحالف الفائز أعلن في وقت سابق أن حصوله على الأغلبية سيمنحه حق إعلان الاستقلال أحادي الجانب عن إسبانيا خلال 18 شهرا، يسبقها إقرار دستور محلي جديد في الأشهر العشرة القادمة.
ربما يبدو السؤال عن مصير البارشا مجانبا للصواب، في ظل الحمولة السياسية الكبيرة لما أفرزته الانتخابات. لكن الكثير من المحللين تحدثوا بالضبط على الجانب الاقتصادي باعتباره محركا أساسيا للنزوع
الانفصالي للكتلانيين.
بل إن بعضهم صار يتحدث عن "ثورة الأغنياء" التي بدأت تجتاح أوروبا في مواجهة ثوراتها السابقة التي قادها الفقراء. البارشا ليس مجرد فريق لكرة القدم، بل هو مؤسسة اقتصادية كبرى بالنسبة لكتالونيا وإسبانيا، وعموم أوروبا، بالنظر إلى حجم العقود الإعلانية وحقوق النقل التلفزيونية التي يسيطر عليها رفاق ميسي، وأيضا وزن الفريق في المنظومة الرياضية الإسبانية التي بدونه تصبح في حجم ومستويات المنتخبات الأوروبية العادية.
وهو بالمناسبة الحجم الاقتصادي ذاته الذي تمثله منطقة كتالونيا بالنسبة للاقتصاد الإسباني الذي، بعد فترة انكماش كبيرة، عاد للانتعاش مؤخرا، بالنظر إلى النتائج الجيدة التي يحققها الاقتصاد المحلي الكتالوني، الذي صار أكبر جاذب للاستثمارات، وهو الذي يمثل بالأساس أكبر تجمع اقتصادي في المملكة الإيبيرية.
في أوروبا اليوم، توجه عام لدى الأغنياء للانفصال عن الفقراء، يجسده الفلامانيون في بلجيكا والكتالونيون في إسبانيا والبادانيون (الشماليون) في إيطاليا.
وربما شكل الجانب الاقتصادي سببا هاما وراء الفشل الإسكتلندي في تحقيق الانفصال عن بريطانيا، ولو إلى حين.
في بريطاني الرغبة في الانفصال هي للدولة عن أوروبا، والموعد استفتاء قريب في العام 2017 مع كل ما يحمله من مخاطر حقيقية لفوز الداعين للخروج من أوروبا.
البريطانيون غير المقيدين بالعملة الأوربية، يعتبرون أنهم البلد الوحيد الذي يحقق معدلات نمو اقتصادية مهمة بالقارة العجوز، ولا مجال لتحمل "الهجرة الأوربية" إلى أراضيها هربا من الأزمة التي تعصف ببقية البلدان.
الفرنسيون يشكلون ما يقارب الـ500 ألف "لاجئ اقتصادي" في مدينة لندن وحدها. لكن الخطر، على المستوى المحلي، يبقى في اسكتلندا الرافضة للخروج من أوروبا، وهو ما قد يمنح الانفصاليين قوة أكبر في حال تحقق ذلك، بما يعنيه الأمر من معاودة محاولة الانفصال عن بريطانيا في ظل تغير المزاج العام لصالح أطروحتهم وقتها، علما بأن هذه الـ"أوروبا" لن تتحمل خروج بريطانيا الذي سيكون آخر مسمار سيدق في نعشها في حال حدوثه.
يبدو من الغريب الحديث، في ظل أوروبا الموحدة، عن ظاهرة الانفصال داخل الدول المكونة للاتحاد. لكن التوسع الأفقي الذي رفع عدد الأعضاء إلى ثمانية وعشرون بلدا، جعل بعض الجهات القوية اقتصاديا وسكانيا تحس بنوع من الغبن السياسي.
فكيف يعقل مثلا أن يكون لأستونيا أو مالطا أو قبرص أو لاتفيا حضور في الاتحاد وحق في التصويت، في الوقت الذي تضطر فيه "الأثنيات" القوية مثل الكتالونيين والباسك والبروتون والفلامان والبافاريين والبادانيين وغيرهم إلى وسطاء / دول فيدرالية، لا تدافع بالضرورة عن مصالحها المباشرة، للتفاوض حول حقوقها؟
والأكيد أن أيا من هذه "الأقليات" لم ترفع شعار الانفصال عن أوروبا، بل تتخذ منها الغطاء لأي تحرك انفصالي داخلي.
وصار مصطلح أوروبا الجهات المرادف المقابل للنظام القديم المبني على أوروبا الدول الأعضاء. لكن الأكيد أيضا أن أوروبا التي تجعل "الجهات" مطمئنة لانفصالها، ستشكل في المقابل السيف المسلط على أي رغبة انفصالية، بالنظر إلى أن الانتماء الأوروبي ليس ميكانيكيا، بل يحتاج إلى موافقة الدول الأعضاء التي تمتلك حق "الفيتو" في مواجهة أي طلب انضمام جديد.
هكذا تجد الجهات نفسها محاصرة بفيتو الدولة الفيدرالية المنفصل عنها، بالشكل الذي سيدفع الناخبين وممثليهم السياسيين إلى التريث حيال اتخاذ أي إجراء من طرف واحد، قد يؤثر سلبا على "رفاهية" الساكنة التي كانت السبب الأساسي في طلب الانفصال.
تلك دائرة "مفرغة" أحكمت القوانين الأوربية إغلاقها. وربما تجد النزعات الانفصالية متنفسا في السعي الحثيث لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إلى حشد القوى الأوربية المؤثرة لتعديل القوانين المنظمة لعمل الاتحاد، والهدف إقناع البريطانينن بالتصويت مع البقاء داخل أوروبا.
في الأسطر السابقة، أشرنا إلى أن خروج بريطانيا قد يكلفها تعاظم قوة الانفصاليين الاسكتلانديين الرافضين لذلك، وبالتالي تعاظم فرص الانفصال الداخلي، وهو ما يعيد الحلقة المفرغة إلى نقطة البداية من جديد.
لكن أوروبا لن تعدم حلولا لترتيب بينها الداخلي ما دامت الديمقراطية هي المنهاج وأصوات الناخبين هي الفيصل والمصالح الاقتصادية للجهات والدول والمجموعة الأوربية هي الهدف المعلن بعيدا عن التناحر والبيزنطيات الفارغة من كل مضمون.
ملوك الطوائف لن يعودوا إلى إسبانيا، فقد غادروها وتفرقوا ومعهم نسلهم على جغرافيا "وطن عربي" تظهر خريطته أن الانفصال أمر واقع أو مستقبل منظور في ظل استبداد وتسلط داخل الدول المختلفة، وانعدام جدوى لهيكل جامعة عربية لا تأثير لقراراتها ولقممها أبعد من مكان انعقادها أو أقل.
في المغرب، محاولة انفصال في الأقاليم الجنوبية استمرت أربعون سنة ولا تزال، ودعوات متفرقة هنا وهناك لجمهورية ريفية بالشمال.
وفي موريتانيا حراطين مستعبدون في القرن الواحد والعشرون يشكلون قنبلة موقوتة قابلة لتفجير المجتمع في أي حين.
وفي الجزائر دعوات متجددة لانفصال أمازيغ القبائل لا تخمد حتى تشتعل خصوصا في ظل الغموض السياسي الذي تعيشه البلاد.
وفي ليبيا، دولة مليشيات وتقسيم بين شرق وغرب. وفي مصر أقباط يتحركون ونوبيون في الانتظار. وفي السودان انشطار للدولة والبقية في الطريق. وفي لبنان "نظام طائف" فقد مفعول المسكن لطائفية زادت حدتها وتعاظمت. وفي العراق انتهت الدولة المركزية أو تكاد بين سنة وشيعة وأكراد.
وسوريا على الطريق لا تخطئ المسير. وفي اليمن شمال وجنوب يرسمان من جديد. وفي دول الخليج سنة وشيعة، وخطر انشقاقات في العوائل الحاكمة، مع وصول الجيل الجديد من القيادات. وفي بقية الدول عوامل انشطار وانقسامات لا تعدمها العين.
لكن الأقرب للتأثر بالنتائج يبقى المغرب، باعتباره يعيش على وقع طلب استفتاء تنادي به جبهة البوليزاريو، في وقت يقترح فيه نظام حكم ذاتي موسع، خصوصا مع تبنيه خيار الجهوية في دستور 2011.
الحكم الذاتي والجهوية الموسعة كانت الخيار الإسباني، لكن الواضح أن ذلك لم ينزع فتيل الدعوات الانفصالية.
وأي نجاح للعملية في الجارة الشمالية قد يبعث "الروح" مجددا في دعوات الانفصال في الأقاليم الجنوبية، خصوصا أن جبهة البوليزاريو ستربح طرفا داعما قويا لأطروحتها، ممثلا في الحكومة الكتالونية المستقلة، وأيضا نموذجا عمليا، تبدو فرص نجاحه قوية، يجمعها وإياه القرب الجغرافي والانتماء لنظام ملكي، وإن اختلفا في في طريقة تدبير الحكم، والمشاركة فيه.
وفي ظل هذا الوضع، لا هم للعرب غير "حبيبي البرشلوني" ومصير مباراة الكلاسيكو بالسانتياغو برنانبيو والكامب نو، إن نجحت كتالونيا في تقرير مصيرها والانفصال عن مدريد.