في احتفاله البائس بانتصارات أكتوبر المجيدة، حرص عبد الفتاح
السيسي على توجيه التحية للمشير محمد حسين طنطاوي الذي كان يجلس في مقدمة الصفوف القليلة، وعلى مقربة من أرملة الرئيس الراحلل أنور السادات، السيدة جيهان السادات، وهما تحية وحضور لهما دلالتهما!
"طنطاوي" و"السادات"، حاضران لكل المناسبات السعيدة لعبد الفتاح السيسي، وهو حضور يريد به أن يعالج عقدة عنده تبدت للناظرين، هي الخاصة بالخيانة، فأراد أن يثبت أنه وفي لأستاذه وللرئيس الأسبق السادات، لعل في حضورهما ما يبدد الصورة المرسومة في وجدان
المصريين، الذين تعد الخيانة صفة مذمومة عندهم.. ويردد المصريون ما جاء على لسان أحد أبطال السيرة الهلالية: "لا تخن من ائتمنك ولو كنت خائنا"؟!
"طنطاوي" هو أستاذ السيسي، وكان يحسبه ضمن رجاله في المجلس العسكري، عندما قدر لهذا المجلس أن يحكم بقرار من مبارك الذي تنحي بأوامر من الثورة المصرية، وكان معظم أعضاء المجلس من رجال الفريق سامي عنان، فجاء طنطاوي بآخرين ولتمثيل أسلحة غير ممثلة، لتكون الأغلبية من رجاله هو، وفي النهاية وبحكم التقاليد العسكرية فقد كان الجميع بمن فيهم عنان نفسه رهن إشارة طنطاوي، بحكم موقعه.
السيسي الطامع في الترقية، وجد في الرئيس مرسي فرصته في الترقي الوظيفي، فبالغ في إظهار الولاء له، على نحو نجح به في إدخال الغش والتدليس عليه، فظن أنه إخلاص حقيقي، فلم يأبه بمن حذروه بأن هناك انقلابا عسكريا في الطريق، إلى أن وقعت الواقعة، وجاءته الخيانة من مأمنه!
البداية كانت بعد شهرين ونصف من تولي الرئيس مرسي منصب رئيس الجمهورية، ولما كانت هناك جنازة عسكرية للجنود شهداء حادث رفح، وقبل أن يغادر الرئيس القصر الجمهوري، كان عبد الفتاح السيسي يقف أمامه كاشفا عن مخطط لإهانة الرئيس وربما خطفه، بتواطؤ من قائد الحرس الجمهوري، وقائد الشرطة العسكرية، ولم يذهب الرئيس للمشاركة في الجنازة، ويومها تم الاعتداء على هشام قنديل رئيس الوزراء، فوقف الرئيس بنفسه على صحة ما أخبره به مدير المخابرات الحربية، فأطاح بقائد الحرس، ومدير المخابرات العامة، وقائد الشرطة العسكرية!
وحين وجد السيسي أن قلب الرئيس قد اطمأن له بعد هذه الواقعة والتأكد من إخلاصه، فقد خطا خطوة للأمام، فوشى بأستاذه "طنطاوي" ورئيس الأركان سامي عنان، وإذ كانت خطة الرئيس في الإطاحة بطنطاوي على أن يحل عنان محله، فقد ذهب السيسي للقصر الجمهوري ومعه ما قال إنه ملف فساد البديل، في ذات اللحظة التي اتصل فيها الدكتور سليم العوا هاتفيا بالرئيس مرشحا السيسي لتدينه للموقع الجديد، وقال فيه قصيدة شعر!
وبعد أن شفيت نفس عبد الفتاح السيسي إلا قليلا، ذهب ليعالج "عقدته النفسية" بالمبالغة في إظهار الإخلاص لأستاذه "طنطاوي"، فقد حمل نفق شيده الجيش اسمه، كما أنه تم إطلاق اسمه على مسجد قامت القوات المسلحة بتشييده، ليثبت به ولاءه للرجل، ويؤكد له عمليا أنه لم يخنه بالغيب، لاسيما وأن الرئيس لم يكن ليؤاخذه على هذا الوفاء!
ثم تضخمت "عقدة الخيانة" بعد انقلابه على الدكتور محمد مرسي الذي رقاه رتبتين عسكريتين، من لواء إلى فريق وفريق أول، وعينه وزيرا للدفاع، رغم بعض التحذيرات، والتي كانت تصل الرئيس حتى بعد اتخاذه لقراره وتؤكد خطأ الاختيار، لكن كان عنده من السوابق ما يجعله لا يشك فيه لحظة، فضلا عن أنه بالغ في إظهار تدينه وإخلاصه، يقولون إنهم عندما كانوا يصلون في جماعة وينصرف الجميع بعد الصلاة، كان يحمل حذاءه ويقف هو الوحيد في تواضع مصطنع حتى يفرغ الرئيس من أوراده!
وكل من شاهد ذلك، صار مطلوبا بعد الانقلاب، فمنهم من دخل السجن ومنهم من تمكن من الهروب!
كثير من هذه التفاصيل لا يعرفها الناس، ومع ذلك فإن الانقلاب مثل عندهم خيانة من المنقلب على رئيسه، الذي ذهب ليؤكد الوفاء الشكلي في اتجاه آخر، فيبالغ في الاحتفاء بالمشير محمد حسين طنطاوي، ويدعوه في كل المناسبات، كما لو كان المرشد الروحي لدولة ما بعد 3 يوليو، وزيادة في التأكيد، فإنه وجه له التحية، دون مبرر موضوعي، إلا لكي يعالج عقدته منتظرا من يقول: "أصيل يا ريس"!، حتى وإن لم يجهر بالقول!
وتأتي دعوة أرملة الرئيس الراحل في كل مناسبة لنفس الهدف، وهي التي تم تغيبها مع سبق الإصرار والترصد على مدى ثلاثين عاما في عهد مبارك، لتخلو الساحة للسيدة الجديدة "سوزان مبارك"، ولأن مبارك نفسه كان كما قال ابن شقيق السادات الراحل "طلعت" يكره "السادات" كراهية التحريم، الاسم والشخص. ربما لعلمه أن الرئيس لم يكن مرتاحا له في السنة الأخيرة، وربما لأن قرينة الرئيس كانت منحازة لوزير الإعلام منصور حسن في منافسته على موقع الرجل الثاني مع مبارك، وقد أماته مبارك بالحياة طيلة فترة حكمه وغيبه تماما، فلم يظهر للوجود الإعلامي إلا في السنة الأخيرة لحكمه وبعد أن بدأ حكم مبارك يضعف!
المرة الوحيدة التي استغاثت جيهان السادات بمبارك فأغاثها لحساباته هو عندما نشرت جريدة "الأحرار" تحقيقا مفتعلا، بعناوين مضللة، عن زواج جيهان السادات، من المحرر كاتب الموضوع وإنجابها طفلا، للتأكيد على سهولة التزوير في المحررات الرسمية!
وللمرة الأولى يغضب مبارك، ويتصل برئيس حزب الأحرار مرتين، كان غاضبا فيهما وفي المرة الثانية قال إن من يهاجم اليوم جيهان السادات سيهاجم في الغد سوزان مبارك!
ولم يكن غريبا بعد ثلاثين سنة من التغييب القسري، أن تقول جيهان بعد الثورة أن أحفادها كانوا في ميدان التحرير، وتبدو سعيدة بذلك، وكان أول من رد الاعتبار لها هو الرئيس محمد مرسي، فهو الذي دعاها للقصر الجمهوري للتكريم بمناسبة انتصارات أكتوبر، لكن خصومه من اليسار، بدوا كما لو كانوا مؤمنين بدور السادات فلم يروا في الصورة سوى حضور عبود الزمر، ورأوا أن مرسي يكرم القتلة في هذا اليوم لأنهم من أهله وعشيرته، ولم يهتموا لوجود ثالثة في المشهد هي أرملة سعد الدين الشاذلي في أول تكريم لأحد قادة حرب أكتوبر!
اليسار لم يكن ضد قتل السادات، بل إنهم انتقلوا بقاتله خالد الإسلامبولي إلى مرتبة الرمز وتدافع المحامون اليساريون للدفاع عن القتلة، وكانت لأحمد فؤاد نجم قصيدة تاريخية في تمجيد الإسلامبولي، وسعد الدين الشاذلي نفسه أعلن أن أبناءه هم من قتلوا السادات على خيانته!
لكن في هذه اللحظة تحول اليسار المصري بتنويعاته، وصار عبود الزمر قاتلا لا يجوز أن يحضر انتصار حرب أكتوبر، وإن كان ينتمى للمؤسسة التي انتصرت، باعتباره كان ضابطا في جهاز المخابرات الحربية، وكان عمه "عبود الزمر" أيضا هو أحد أبطال هذه الحرب!
"الزمر" هبط من رمز عندهم إلى قاتل، والسادات ارتفع من خائن إلى رمز، لأنهم كانوا في حالة تربص بالرئيس مرسي، والآن صار مفيدا أن يصير القتلة هم أهله وعشيرته، ولا بأس فقد حصحص الحق، وصار "عبود الزمر" من المدافعين عن الانقلاب العسكري، ولم يعد القوم يصفونه بـ "القاتل"!
وجود أرملة الفريق سعد الدين الشاذلي وابنته في الاحتفال كان دلالة على المصالحة التي يريدها الدكتور محمد مرسي. فالسادات هو من أدان الشاذلي ورماه بالخيانة وطارده خارج البلاد. وتكمن الأزمة في النظرة التصالحية لمرسي أنه كان يريد التصالح مع الدولة القديمة، ولم يبذل جهدا في التصالح مع الثورة وفصائلها لخلل في الرؤية، إذ كانت القيمة لمن لهم وجود على الأرض، وكانت الرؤية هنا لابد من أن تصب لصالح من يملكون الوجود وهم الإسلاميون والدولة العميقة!
ما علينا، فجيهان السادات التي بدت ممتنة للرئيس مرسي وهو يرد لها اعتبارها اعتبرت بعد الانقلاب أن حضورها في احتفال حضر فيه قاتل زوجها كان صعبا عليها، كما أن أرملة الشاذلي لم تكن بأحسن حالا منها عندما كرمها السيسي، لتعتبر أن هذا هو التكريم الحقيقي، مع أن مكرمها ينتمي لمؤسسة مبارك العسكرية التي أدانت زوجها وسجنته سجنا انفراديا، وأزالت دوره من
نصر أكتوبر ومحت صورته واستبدلت صورة مبارك بها في تزوير فاضح للتاريخ!
لا أعرف إن كانت أرملة الشاذلي شهدت هذه الجلسة البائسة التي كانت في حجرة صغيرة، أم استبعدت للحفاظ على المشاعر الرقيقة لأرملة الرئيس السادات، وأيضا ولاء لمبارك الذي أصر على سجن سعد الدين الشاذلي، وكان من سلطته القانونية العفو عنه، وولاء السيسي إلى مبارك أكيد، وحضورها في العام الماضي هو من باب ذر الرماد في العيون وحتى لا ينسب تكريم الرجل للرئيس المدني المنتخب.
ومهما يكن، فقد وجد السيسي في "طنطاوي" و"جيهان" ما يعالج به عقدته ويثبت أنه رجل "الوفاء والتقوى"، وإن كلفه هذا الإشادة برجل طالبت الثورة بسقوط حكمه، وقد وصفها هو بأنها "مؤامرة"، ولا بأس فقد صار اللعب على المكشوف، وصارت الأذرع الإعلامية للسيسي مسخرة في الهجوم على يناير والتطاول عليها، فلا توجد إلا ثورة واحدة هي التي أنهت المؤامرة وجاءت بالسيسي رئيسا، وردت الاعتبار للمشير حسين طنطاوي!
نفي الخيانة لن يتحقق إلا بحضور مبارك للمشهد، في انتظار حضوره العام القادم، وإن غاب فجلوس أرملته بجانب أرملة السادات يؤدي الغرض!