من الواضح أن الاصطفاف الثوري ليس نزهة ولا مهمة سهلة، فعلى مدى أكثر من عامين قبل الانقلاب ومثلها بعده، نجحت الثورة المضادة في زرع فيروسات الفتنة والشقاق بين قوى يناير (إسلامية- ليبرالية- يسارية) حتى أصبح بأسها بينها شديدا، وحتى استحال بعضها عدوا لبعض وصديقا لمن قامت الثورة ضده، وحتى أصبحت محاولات استعادة الثقة ضربا من الخيال، وأصبح معها تحقيق الاصطفاف مجددا أمرا صعب المنال، ولكن كما ذكرت في مقال سابق، إذا كانت مرارات الماضي بين قوى يناير الحقيقية شديدة ومؤلمة، فإن مرارات الحاضر على يد سلطة الانقلاب أشد مرارة على الجميع، وهو ما يفتح بابا للأمل في تفهم الجميع للعمل المشترك.
يخطئ من يتصور أو يصور الدعوة للاصطفاف باعتبارها هدفا في حد ذاته، وطريقا وحيدا للانتصار الثوري، فالاصطفاف كما أفهمه هو وسيلة لا غاية، وهو وسيلة من بين وسائل عديدة للمعركة ضد الانقلاب تبدأ بصياغة رؤية واضحة للمقاومة وخطة عمل محكمة تقودها وتشرف على تنفيذها قيادة صاحبة كفاءة وملهمة، ويخطئ بعض الإسلاميين حين ينظرون إلى غيرهم من قوى يناير الحقة (يسارية أو ليبرالية) باعتبارها مجموعة أصفار لا قيمة لها، كما تخطئ القوى الثورية غير الإسلامية في اعتبار الإخوان وجها آخر للعسكر، وأنهم أعداء الديمقراطية رغم ما قدموه من آلاف الشهداء من أجلها، كما لم يعد مقبولا من هذه القوى بعد أن اقتنعت أن ما وقع في
مصر هو انقلاب على الثورة والديمقراطية، أن تظل مقتصرة في رفضها له على مجرد بيانات شجب وإدانة، دون أن تقدم على فعل حقيقي يتضافر مع جهود الثوار الصامدين في الشوارع على مدى أكثر من عامين، وإذا لم يكن بمقدور هذه القوى في الوقت الراهن المشاركة في مظاهرات رافضة للانقلاب، فإن بإمكانها التحرك على مسارات أخرى تؤلم نظام الانقلاب أيضا.
ليس الاصطفاف هو الوسيلة الوحيدة للانتصار كما ذكرت؛ فالثورة مستمرة والحراك قائم سواء تم الاصطفاف أو تعثر، وهو ليس موجها لفصيل أو لفصائل بعينها بل هو رسالة إلى عموم الشعب، خصوصا الذين شاركوا في مظاهرات 30 يونيو والذين دعموا الانقلاب العسكري ثم اكتشقوا لاحقا خطيئتهم، ويريدون العودة إلى صف الثورة، ومن واجبنا أن نشعرهم أنهم مرحب بهم في هذا الصف الثوري، بدلا من إغلاق الباب في وجوههم ودفعهم إلى العزلة، أو حتى العودة إلى صفوف الثورة المضادة.
خلال الأيام الماضية شن بعض رافضي الاصطفاف هجوما غير مبرر على ما وصفوه بوثيقة العشرة، وهي في حدود علمي مجرد ورقة أولية لم تكتمل، وكان للعديد من الأطراف ملاحظات عليها، وكان مفترضا بأصحاب هذه المبادرة أن يناقشوا تلك التحفظات، ولكن تسريب الوثيقة -التي هي ملك لأصحابها- قبل نضجها واكتمال النقاش بشأنها، وأدها في مهدها، وللعلم فإن تلك المبادئ العامة التي تضمنتها الوثيقة –مع الأخذ ببعض التحفظات الجوهرية- لم تخرج عن وثيقة بروكسل أو بيان القاهرة الذي وقع عليه ورحب به بعض من عارضوا الخطوة الجديدة.
والغريب أن بعض من عارضوا فكرة الاصطفاف الثوري بدعوى أنه "لن يؤمن لك من قومك إلا من قد آمن"، يطرحون في الوقت ذاته فكرة الاصطفاف خلف
البرادعي رئيسا توافقيا أو رئيس وزراء، بحجة أنه صاحب ثقل دولي مهم (الأستاذ سليم عزوز نموذجا)، كما أن الغريب أن بعض قيادات الإخوان الذين رفضوا الوثيقة هم من وقف وراء وثيقة بروكسل وبيان القاهرة من قبل، رغم أنهما يتشابهان إلى حد كبير مع هذه الورقة الأولية التي كانت مماطلة أصحابها في إنهاء مناقشاتها والتعامل بجدية مع الملاحظات عليها سببا في الهجوم عليها ووأدها في مهدها.
ومع ذلك فإنني أرفض النيل من تلك القامات التي تبنت هذه المبادرة، التي يقف وراءها جميعا تاريخ حافل من النضال السياسي والعمل الثوري لايتوفر ربعه أو خمسه لبعض من هاجموهم، فقامات مثل سيف الدين عبد الفتاح أو الدكتور أيمن نور أو الدكتور محمد محسوب أو الدكتور عمرو دراج أو السفير إبراهيم يسري، أو الدكتور طارق الزمر أو المهندس حاتم عزام، أو يحيى حامد، أو ثروت نافع، أو عبدالرحمن يوسف لا يمكن لأحد أن يشكك في دورهم وعطائهم، ومساعيهم لدحر الانقلاب، ودفاعهم عن الرئيس محمد مرسي، وقد اجتهدوا لتقوية الصف الثوري عبر محاولة جمع القوى الثورية على كلمة سواء، تنطلق من مواطن الاتفاق وهي كثيرة، عملا بالقول المأثور: "نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".
يخطئ البعض حين يتصور أن عملية الاصطفاف لابد أن تشمل الاتفاق في كل شيء، فهذا محال بطبيعة الحال، ولايتحقق إلا لأعضاء حزب أو كيان واحد، وبالتالي فإن الممكن هو البحث عن مساحات العمل المشتركة التي قد تفتح الباب لاكتشاف المزيد من هذه المساحات مع الوقت، مع احتفاظ كل فريق بخصوصياته التي لا يمكنه التنازل عنها وهي بالنسبة لأنصار الشرعية التمسك بشرعية الرئيس مرسي.
تبقى كلمة أخيرة في هذا المجال، وهي أن تحقيق الاصطفاف الشامل يبدأ بتحقيقه داخل جماعة الإخوان المسلمين في الداخل والخارج، باعتبارها الحركة الأم والقرص الصلب لمقاومة الانقلاب، ثم تحقيق اصطفاف حقيقي وفاعل بين القوى الرافضة للانقلاب بالأساس، وصولا إلى اصطفاف أعم مع بقية القوى الليبرالية واليسارية الثورية التي شاركت في 30 يونيو، أو دعمت الانقلاب ثم تراجعت عن ذلك، ونقطة البدء في كل ذلك هو توفر الإرادة والإدراك الحقيقي بأهمية وضرورة الاصطفاف، ومن ثم الحوار حول أسسه وقواعده وحدوده، وما هذا بأمر عزيز.