تمكنت جماعات الإخوان المسلمين خلال العقود السابقة من المحافظة على بنيانها التنظيمي الصارم، وأدارت خلافاتها الداخلية بطريقة امتازت بقدرتها الفائقة على احتواء تلك الاختلافات، وضبط مسارات الجماعة، عبر الآليات المعمول بها داخل كل جماعة من جماعاتها.
لكن بدأت في الآونة الأخيرة تظهر إلى العلن
خلافات عاصفة بين قيادات الجماعة في صفها الأول. ولعل أظهر تجلياتها ما حدث ويحدث في أوساط الجماعة الأم في
مصر بين قيادات الداخل والخارج، ومثلها ما حدث ويحدث في أوساط إخوان الأردن، من تأسيس كيانات جديدة خارج أطر الجماعة وبلا موافقتها، بل إنها اعتبرتها تمردا عليها.
تثير الاختلافات الجديدة التي قد تفضي إلى
تشظي الجماعة، جملة من الأسئلة الإشكالية، إذ كيف استطاعت جماعات الإخوان احتواء خلافاتها الداخلية طوال العقود الماضية، وعجزت عن ذلك في الآونة الأخيرة؟ وما الذي تغير في المشهد العام والإخواني منه على وجه الخصوص؟ وهل أسباب الاختلافات المفضية إلى التشظي ذات طبيعة مختلفة عن سابقاتها؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة؟
طبيعة الاختلافات وأسبابها
وفقا لعضو مجلس شورى
جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، الدكتور رامي ملحم، فإن اختلافات الإخوان في الأردن لا يمكن إدراجها تحت عناوين فكرية أو سياسية أو منهجية، وإنما هي نتيجة تراكمات شخصية ونفسية، تراكمت عبر العقود السابقة، إلى الدرجة التي فاضت فيها عن الاحتمال والاحتواء.
وتابع ملحم قائلا: "الجماعة بمختلف تياراتها تتوافق على المنهجية الدينية والسياسية والفكرية، فمنهجيتها إصلاحية، وجميع تياراتها متوافقة في موقفها من النظام السياسي القائم، ولا يوجد في صفوفها ما يمكن اعتباره خلافات حقيقية وجدية في الميادين السابقة".
وتوقف ملحم في حديثه لـ"
عربي21" عند حالة مبادرة زمزم التي أسستها قيادات إخوانية خارج إطار الجماعة، منوها إلى أنها بعد مضي ما يزيد على سنتين على تأسيسها، لم تقدم أي مشروع فكري أو سياسي يختلف عما تطرحه الجماعة.
وإذا كانت اختلافات إخوان الأردن لا ترجع إلى أسباب فكرية أو سياسية بحسب ملحم وآخرين من قيادات الجماعة، فهل الاختلافات في صفوف إخوان مصر هي كذلك، ولا تعدو أن تكون ناتجة عن ذات الأسباب التي تفاعلت عبر السنين فأنتجت حالة التشظي الحالية؟
وأجاب الصحفي الصحفي المصري الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، عبد القادر وحيد، بأن اختلافات الإخوان المصريين الحالية ترجع إلى الاختلاف في تقدير الموقف من المسار الثوري، فبينما تميل القيادة التاريخية للجماعة المتواجدة في الخارج إلى البحث عن نقطة التقاء مع النظام، ترى القاعدة الشبابية الإخوانية ضرورة إتمام مسار الثورة إلى النهاية بلا مواربة، أو تصالح مع النظام.
وجوابا عن سؤال "
عربي21" حول مدى تأثير المنهج الإصلاحي على قيادات الجماعة في اختيار مساراتها، قال وحيد: "بالطبع فإن اختيار مسار التصالح مع النظام يتماشى مع مسار الجماعة الإصلاحي الذي سارت عليه طوال مسيرتها السابقة، لكن التوجه الشبابي الثوري الجديد تمرد على المسار التاريخي الإصلاحي للجماعة، ويدفع بقوة باتجاه مواصلة المسار الثوري".
انفجار الاختلافات
وامتازت جماعات الإخوان المسلمين عن غيرها من الحركات والجماعات الإسلامية، بصلابة التنظيم وتماسكه، وقدرتها الفائقة على احتواء الاختلافات الداخلية، إما بالتوافق أو حسمها عبر آلية الانتخابات، لكن الأحداث الأخيرة تشير بقوة إلى إصابة الجماعة بداء التشظي والتنازع الداخلي، وعجزها عن احتواء خلافاتها بعد ظهورها إلى العلن بشكل مقلق ومربك.
من جانبه أرجع القيادي الإخواني الأردني الدكتور عبد الله فرج الله، أسباب تراجع سلطة التنظيم على قياداته وأعضائه إلى التطور الهائل في وسائل التواصل والاتصال، الذي أتاح لأبناء الجماعة الاطلاع على واقع جماعتهم في كل أصقاع الأرض، ما سهل معرفة أخبارها، والتعرف على اجتهاداتها، وما يدور حولها من نقد وتأييد ومعارضة.
وتابع فرج الله حديثه لـ"
عربي21" قائلا: "باختصار لم تعد الجماعة حكرا على أصحاب القرار فيها، ولا حتى على أعضائها المنتظمين.. وبهذا كسرت إحدى حلقات (المهابة) التي كانت تحيط بها من كل جانب".
وأشار فرج الله إلى أن الربيع العربي أحدث أثرا كبيرا في أوساط الإخوان المسلمين، لأنهم لم يكونوا في منأى عن التأثر برياح التغيير، فما عادت اللغة الخطابية البليغة تأسرهم، ولا الشعارات البراقة تتملكهم، ولا الوعود الفضفاضة تقنعهم، ورفعوا سقفهم بما يتناسب مع نسبة الوعي – في الحياة كلها وليس في التنظيم – الذي زاد عندهم بعد تنسمهم رياح الربيع العربي.
وردا على سؤال حول مدى تأثير أجواء الانفتاح ما بعد الربيع العربي، على شؤون التنظيم السرية، قال فرج الله: "في الماضي بحكم قانون سرية التنظيم كنت لا تكاد تظفر بقيادي أو حتى أخ من الصف الثاني يتحدث في شأن التنظيم لوسائل الإعلام إلا ما ندر، الآن الظرف تغير، وأصبحت أدق التفاصيل مادة إعلامية متداولة، ومع أجواء الانفتاح باتت الحلول أكثر مشقة وإرهاقا".
ولفت فرج الله إلى "أن منهج السنوات الماضية في التعامل مع المشكلات الداخلية، وعدم الوصول فيها إلى حلول حاسمة، زاد من ثقلها، ورفع من كلفة ثمنها، وأوصلت التنظيم في النهاية إلى هذا الحال الأصعب والأشد في تاريخ الجماعة وحاضرها".
في سياق مقارب، أرجع أحد أعضاء جماعة الإخوان المصرية (فضل عدم ذكر اسمه)، سبب انفجار الاختلافات الحالية إلى أن قيادات الجماعة في الخارج تريد التصالح مع النظام، وفلسفتهم في ذلك المحافظة على ما تبقى، لافتا إلى أن مجموعة محمود حسين (الأمين العام للجماعة)، هي الأقوى الآن لامتلاكها مفاتيح القيادة والتمويل.
وأشار في تواصله مع "
عربي21" إلى وجود تململ واسع في أوساط شباب الجماعة من تلك القيادات، الذين باتوا ينتقدون سذاجة تلك القيادات بشدة. وذكر أن بعض قيادات الصف الثاني من الجماعة، كحمزة زوبع وممدوح المنير والدكتور علي بطيخ، يقودون حركة قوية لتثوير الجماعة، ومواصلة المسار الثوري.
من جهته رفض القيادي في إخوان مصر، مسؤول العلاقات الخارجية في حزب الحرية والعدالة، محمد سودان، توصيف الخلافات باعتبارها اختلافا في تقدير الموقف من التعامل مع النظام الانقلابي بين إخوان الخارج والداخل، معتبرا هذا التوصيف عاريا عن الصحة تماما.
وقال سودان لـ"
عربي21": "لا يوجد أي قيادي أو حتى أي عضو في الجماعة يقبل بأي نوع من المصالحة أو حتى الحوار مع النظام الانقلابي"، واصفا ما يجري بـأنه "الاختلاف بين إخوان الداخل على آلية إدارة الصراع ضد النظام.. وهو أحد أسباب الاختلاف وليس كلها، والذي انتقل إلى إخوان الخارج".
وأشار سودان إلى وجود "بعض الخلافات على قيادات الجماعة في الداخل والخارج"، وهي من وجهة نظره "ظاهرة صحية لجماعة بها رؤى مختلفة، مع صعوبة التواصل في ظل القمع الأمني والتعذيب، والاغتصابات وأحكام القضاء التي أصبحت أضحوكة بين كل القضاء في العالم، بعد أن سيسها النظام الانقلابي بامتياز"، على حد قول سودان.
مستقبل الجماعة
وبعد استفحال الخلافات في أوساط إخوان مصر والأردن، فإلى أين ستأخذهم تلك التشظيات؟ فبحسب القيادي الإخواني الأردني الدكتور فرج الله، فإن ما حدث "لم يكن مستغربا، بل كان متوقعا في ظل الجمود الذي كان مسيطرا على واقع الجماعة، تقريبا في كل ميادينها".
واعتبر فرج الله ما حدث "حراكا ضروريا من شأنه أن يحرك مياه الجماعة الراكدة، ويصل إلى مساحات كان الوصول إليها شبه محرم، ويعزف على أوتار أُهملت منذ أمد بعيد"، متوقعا أن "يغادر البعض آيسا، ومؤثرا السلامة، ومعتزلا ما يظنه فتنة بين الإخوة..".
أما المشهد المستقبلي لإخوان الأردن طبقا لفرج الله، فسيحافظ السواد الأعظم من الجماعة على بيعته للجماعة، وستبقى جمعية الجماعة بقيادة عبد المجيد الذنبيات (المراقب العام الأسبق للجماعة) محصورة العدد، وأصحاب مبادرة زمزم بقيادة القيادي ارحيل غرايبة سيجتهدون في إطار مبادرتهم.
وعن مبادرة "الإنقاذ والشراكة" التي أطلقها من يسمون بـ"حكماء الجماعة" (قيادات تاريخية للجماعة)، ذكر فرج الله أنهم توصلوا مؤخرا إلى تكوين إطار سياسي جديد، قد يكون حزبا، مع تأكيدهم على تمسكهم بعضوية الجماعة، واستقالتهم من حزب جبهة العمل الإسلامي (الذراع السياسية للجماعة).
أما مستقبل الجماعة في مصر، وفقا للإخواني المصري، فإن الأوضاع تبدو مرشحة لمزيد من التأزم الداخلي، في ظل إصرار قواعد الجماعة الشبابية على مواصلة المسار الثوري، متمردة بذلك على توصيات وتعليمات قيادات الخارج، التي تسعى لإيجاد نقطة تصالح مع قيادة الانقلاب العسكري.
على العكس من ذلك، فقد أبدى القيادي في إخوان مصر، محمد سودان، ثقته في "أن هذه الخلافات سوف تنقضي عاجلا أم آجلا، والتجارب الماضية أكبر دليل على ذلك"، لافتا إلى أنها "لم تكن هذه هي المرة الأولى لحدوث اختلاف في وجهات النظر، أو خلافات بين أعضاء الجماعة، أو بين القيادات"، مؤكدا أن "الجميع متفق على دحر الانقلاب وعودة الشرعية، ولا جدال أو خلاف نحو هذا الهدف".
وبات من الواضح أن جماعة الإخوان المسلمين ما بعد الربيع العربي، لم تعد هي ذات الجماعة التي كانت قبله، خاصة الجماعة الأم في مصر، والجماعة في الأردن، فقد خسرتا كثيرا من قوتهما الذاتية، بسبب خلافاتها الداخلية العاصفة، والتي ستفضي إلى تشظي الجماعة وافتراقها إلى كيانات مختلفة ضعيفة وهزيلة، بحسب مراقبين ومحللين.