لا يلبث حكام هذه المنطقة يستعيدون سِيَر الانهزام والتردي في تاريخ الأمة ليقدموا لنا صورة حديثة من سيرة ملوك
الطوائف الذين أضاعوا باستبدادهم وميلهم لنوازعهم الشخصية حضارة مهدت لتقدم العلم الحديث، وأضاعوا أناسا تعرضوا للقتل والتهجير والاستئصال الكامل، ولو التفتوا برهة لمسؤلياتهم تجاه محكوميهم، لبذلوا جهدهم في دَرَكِ هذه الأمة من الضياع.
اليوم يسير ملوك وحكام الطوائف في صورتها الحديثة على نفس المنوال، من التفات لمصالح ذاتية، وانغماس في الفساد بكل صوره، والانشغال عن حض الناس على العلم والانكباب على تجهيلهم، والنزوع إلى التباري للهيمنة على سلطان وملك أقرانهم أو خصومهم، لينتهي الحال بهذه الأمة التي قسّمت حديثا في 1916م بسايكس - بيكو إلى مشروع تقسيم جديد، لا يقوم على قومية اللغة وحسب، بل على انتماءات اللغة والعرق والمذهب، وتتفتت أكثر من تفتتها.
يستدعي التوتر السني - الشيعي "الرسمي" هذا الحديث عقب إعدام المملكة العربية السعودية لأحد القادة
الشيعة هناك ومعه العشرات ممن وصفتهم بالإرهابيين، وما ترتب على ذلك من أحداث أدت إلى قطع العلاقات بين المملكة وإيران، وتبعت دول أخرى المملكة في سلوكها، وما يثير الغضب العارم هو مدى المناكفات الصبيانية التي يبدبها الضعفاء أمام بعضهم، أو مَن اجتمعوا برابطة الدين وافترقوا بالسياسة، وأحد المتناكفيْن لا يقدر على إبداء ذلك أمام الدولة الأمريكية أو حتى لدولة حليفة لها كالكيان الصهيوني.
ما يثار في تلك الأزمات صوت طائفي واضح، لكن الأكثر وضوحا ما تسعى الأطراف لإخفائه بأن الأسباب في حقيقتها سياسية لا حرصا على دين أو مذهب، ولو كان الحرص عليهما هو المحرك، لقاموا لتحرير فلسطين التي يتعرض أهلها للتهجير والقتل والاستئصال، أو حاربوا أمريكا التي احتلت العراق وأفسدته وضيعته وأثارت النعرات القومية والطائفية، ولكنهم يداعبون شعور شعوبهم بخطاب الدين، وتهفو قلوبهم قاصدة رضا دول دمرت أرضنا وقتلت أهلينا وقسّمت جماعتنا ووحدتنا.
إن آفة الآفات التي تنتشر عندنا هي الاستبداد، ففي ظله تثار الفتن وتحترق الأرض لأجل الحفاظ على الحكم، وفي ظله يتم التشنيع على القريب والتودد للغاصب المحتل، وفي ظله تصدر الأحكام وفقا لهوى السلطة، أيًّا كان مردود الحكم، ودون الاعتناء بضوابط العدل والأهم دون الاعتناء بضوابط الدين الذي يُمتهن باستعماله من الجميع، لذا تصدر دعوات دائمة لإيقاف حكم الإعدام في تلك الدول المستبدة؛ نظرا لعدم توافر أسباب العدالة وضمان حصولها.
إن إعدام النمر وما تبعه من أحداث ليس وليدا لتلك الحادثة، بل هي لحظة انكشاف الرغبات الملحة في التشاحن والعداء، ودخول سباقات التسليح دون تذمر شعبي خاصة عقب التردي الاقتصادي الذي تمر به المنطقة، والدول المتنابذة حاليا في تلك الأزمة، ومنها من بدأ يعاني لأول مرة اقتصاديا.
دعوات كبح جماح النزق البادي بخطاب الأطراف، ليست دعوات تشيّع أو تسنّن، كما هي ليست دعوات للتغاضي عن الأخطاء، بل هي دعوات لعصمة الأرواح، وائتلاف أصحاب القواسم المشتركة، وإحياء لما ساد من وئام بين العلاقات مع المكون الشيعي في جسد الأمة المسلمة والمنطقة الواحدة، الأمر الذي فطن له حكام ما قبل الانقلابات العسكرية بالنصف الثاني من القرن العشرين، وقبل سيادة النزعة القومية، وقبل إعلاء أفكار الدول القطرية والمكون العرقي للدول، وهو أمر بلغ زواج أفراد من الأسر الحاكمة في تلك الفترة من أبناء الحكام الإيرانيين، وما عاشت دولنا في شقاق إلا عقب الثورة الإيرانية نهاية السبعينيات، الأمر الذي يدلل هيمنة السياسة على السلوك الرسمي، ويدلل كذلك على وجود إمكان لتجاوز الخلاف كما كان من قبل والتعامل على أساس الجوار، والاستيعاب لا الاستبعاد، والحوار لا الإقصاء.
ما يمكن قوله بارتياح أن هذه الأزمات لن تُفني أحد الأطراف ولن تكون الهزيمة هي سبب الارتياح للطرف المنتصر، بل سيبقى الجميع، والأولى أن نبقى دون جراحات ورغبات في الثأر، طالما أن قَدَرَنا التجاور، ومع وجود عدو محتل يسعى دوما للتفوق علينا ولإثارة الاضطرابات في بلداننا ينبغي الائتلاف لا التناطح والتصرف بعنجهية الصبيان.