ألقى أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بكلية
الشريعة عبد الله الكيلاني، محاضرة بعنوان "تطور العلاقات بين الدول: من دار إسلام ودار حرب إلى دار استجابة ودعوة".
وقال الكيلاني في محاضرته التي ألقاها بدعوة من المركز الثقافي الإسلامي في الجامعة الأردنية: "إن التقسيم إلى دار استجابة ودار دعوة أقرب لحقيقة العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وأقرب إلى غاية الجهاد وأبعد عن اللبس من تسميتها دار حرب؛ بما يوهم إعلان
الحرب".
وبين "أن التقسيم مرتبط بأحكام مثل: حكم الهجرة من
دار الكفر إلى دار الإسلام، وأن هذه الأحكام يمكن أن تتجزأ اليوم، فالبلاد التي لا يصدق عليها وصف دار الإسلام، يجدر أن نسميها اليوم دار دعوة في مقابل دار الاستجابة التي هي دار المسلمين".
واستحضر الكيلاني فتوى
ابن تيمية الخاصة بأهل ماردين، (وهي بلدة في جنوب تركيا، احتلها التتار الكفار، وأهلها مسلمون)، لما سئل عنها: هل تُعد دار كفر أو دار إسلام أجاب بأنها مركبة من الدارين، يُعامل فيها المسلم بما يستحق، ويُقاتل الكافر بما يستحق"، لكن تلميذه ابن مفلح حرر عبارته الأخيرة بـ"ويُعامل الكافر" وهي الأصح والأدق.
وأوضح الكيلاني لـ"
عربي21" أن فتوى ابن تيمية السابقة فتحت بابا جديدا في النظر الفقهي يسمح بالتغيير، مع عدم الوقوف عند التقسيم الثنائي المعروف، عازيا إلى فقيه المقاصد المغربي الدكتور أحمد الريسوني قوله ما دام أن ابن تيمية اعتبر ماردين مركبة من دارين ما يسمح بإضافة قول ثالث، فقد توجد حالة تتركب من ثلاثة فينتج قولا رابعا.
ونقل الكيلاني عن الفقيه الموريتاني الدكتور عبد الله بن بيه قوله: "إن تقسيم الفقهاء العالم إلى دار كفر ودار إسلام لم يكن مستندا إلى نص ديني، بقدر ما كان وصفا لواقع قائم، وهو ما لا يتناسب مع واقعنا الجديد الذي يصفه بعالم الفضاءات الفسيحة (خاصة المجتمعات الغربية)، وقد باتت حرية التفكير والتعبير فيه حقوقا محفوظة للجميع، وأُتيحت فيه الحريات للمسلم والكافر على حد سواء".
تقسيم الدور تشريع ثابت
درجت مدونات الفقه الإسلامي القديمة على تقسيم العالم إلى دارين، دار إسلام ودار كفر، حيث يقول الفقيه الحنبلي ابن مفلح: "فصل في تحقيق دار الإسلام ودار الحرب، فكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فهي دار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفار فهي دار الكفر ولا دار لغيرهما..".
وما زال ذلك التقسيم حاضرا في أدبيات حركات وأحزاب وشخصيات إسلامية معاصرة، كجماعات السلفية الجهادية، وكحزب التحرير الإسلامي، وأغلب أساتذة وشيوخ كليات الشريعة، الذين يعتبرونه تشريعا دينيا ثابتا، وليس منتجا تاريخيا محكوما بزمانيته، ما يعني تعذر إمكانية تجاوزه في أزمنة لاحقة ومستقبلية.
وفي هذا السياق، يقول المفكر الإسلامي المعروف سيد قطب: "ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما: الأول: "دار الإسلام".. وتشمل كل بلد تطبق فيه أحكام الإسلام، وتحكمه شريعة الإسلام.. والثاني: دار الحرب، وتشمل كل بلد لا تطبق فيه أحكام الإسلام، ولا يحكم بشريعة الإسلام...".
من جانبه أكد أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في الجامعة الأردنية عارف حسونة، أن هذا التقسيم ليس تاريخيا، وإنما تشريع ثابت، لا يمكن تجاوزه، وهو مبني على ما يغلب من أحكام على كل دار، فإن غلبت عليها الأحكام الإسلامية كانت دار إسلام، وإن غلبت عليها أحكام الكفر كانت دار كفر.
ووجه حسونة سؤالا إلى من لا تعجبهم هذه التسمية قائلا: "لماذا لا تعجبكم وليس فيها أكثر من نسبة الشيء إلى أكثر ما فيه؟"، مبديا تحفظه على أقوال الفقهاء المعاصرين الذين اعتبروا تلك القسمة تاريخية، مؤكدا أنها قسمة شرعية وفقهية صحيحة.
وجوابا على سؤال "
عربي21" عن معايير اعتبار الدور، قال حسونة: "اختلف الفقهاء في تحديد ذلك، فمنهم من قال: معيار ذلك أن يكون جميع أهلها أو أغلبهم مسلمين، ولو كان نظام الحكم فيها غير إسلامي، ومنهم من قال: معيار ذلك أن يكون نظام الحكم فيها إسلاميا، وإن كان غالب أهلها غير مسلمين.
تتساوق رؤية حزب التحرير الإسلامي (الذي يعمل بغير ترخيص قانوني) تماما مع الرؤية الفقهية التقليدية عند جمهور الفقهاء الخاصة بهذه القضية، وهو يصر على ذلك التقسيم باعتباره تقسيما شرعيا فقهيا ثابتا، ويبني عليه تصوره للعالم، فليس ثمة دور إلا دار الكفر ودار الإسلام.
ووفقا للناطق الإعلامي باسم الحزب في الأردن، ممدوح قطيشات فإن الحزب ينظر إلى أي "دولة تطبق نظام الإسلام بكل تفصيلاته، بأنها دار إسلام، وإن كان جل أهلها من غير المسلمين، وأن أي دولة لا تطبق نظام الإسلام، هي دار كفر، وإن كان جل أهلها مسلمين".
وتابع قطيشات: "وبناء على ذلك الرأي فإن حزب التحرير يعتبر العالم كله الآن دار كفر، لأنه لا توجد دولة في العالم كله تطبق النظام الإسلامي بكل تفاصيله، فلا وجود لدار الإسلام في عالمنا المعاصر". منوها إلى أن الحكم على الدار بأنها دار كفر لا يعني تكفير المسلمين القاطنين فيها، فالحكم خاص بالنظام ولا ينطبق على المسلمين الساكنين في تلك الدار.
وردا على سؤال واجب المسلمين تجاه هذا الواقع بحسب رؤية الحزب، قال قطيشات: "الواجب أن يعمل لإيجاد دار الإسلام، التي تطبق فيها أحكام الإسلام، برسالته الهادية للبشرية كافة". والتي "يجب أن تكون دارا واحدة لا تتعدد، لأنه لا يجوز أن يكون للمسلمين أكثر من خليفة وفق الأحكام الشرعية" بحسب قراءة حزب التحرير.
اصطلاح يناسب زمانه ولا يمكن تحقيقه
من جهته أوضح الأكاديمي الشرعي السعودي، الدكتور سعود الفنيسان، أن تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر اصطلاح تواضع عليه الفقهاء في أزمنة سابقة، وهو يعبر عن طبيعة النظام الذي كان سائدا، فالنظام الإسلامي كان على رأسه خليفة، يحكم بالإسلام ويطبق نظامه، فداره دار الإسلام، وسائر العالم دار كفر.
وأضاف: "لكن بعد سقوط الخلافة العثمانية لم يعد ذلك قائما، إذ تم تقسيم العالم الإسلامي إلى دول مستقلة، ولا يمكن اعتبار الدور كما كانت عليه سابقا"، لأن نظام الخلافة السابق لم يعد موجودا.
وذهب الفنيسان إلى القول بأن مفهوم الخلافة بحسب النموذج التاريخي لن يعود مرة أخرى، ما يعني بأن ذلك التقسيم (دار كفر ودار إسلام) لم يعد صالحا لزماننا.
وجوابا على سؤال "
عربي21" بأن المعترضين سيعترضون عليه، بعودة الخلافة مرة أخرى على منهاج النبوة، طبقا للوعود الواردة في الأحاديث النبوية، قال الفنيسان، عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض سابقا، بأنه بعد دراسته لتلك الروايات وجد أنها غير صحيحة، ولا تصلح للاحتجاج بها.
وبناء عليه فإن نموذج الخلافة الإسلامية، التي تكون محلا لدار إسلام واحدة، ويحكمها خليفة واحد، لا يمكن أن توجد مرة ثانية، وقد تكون في عهد عيسى بن مريم عليه السلام حينما ينزل من السماء ليحكم بشريعة الإسلام، على حد قول الفنيسان.
ثمة بون شاسع بين رؤية إسلامية ترى العالم منقسما إلى دارين: دار كفر ودار إسلام، يقود الأولى خليفة المسلمين، ورؤية إسلامية أخرى ترى ذلك التقسيم منتجا تاريخيا، انتهت صلاحيته بانتهاء زمانه، وتسعى لتأسيس أنماط جديدة في العلاقات الدولية، تنطلق من المواثيق والمعاهدات الدولية التي باتت تنظم العلاقات بين الدول في عالمنا المعاصر.