عمد الاحتلال الأمريكي للعراق إلى التلاعب بالهويات في سياق ترسيخ سيطرته الإمبريالية، في سياق صناعة
الطائفية وعلاقتها الراسخة بالإمبريالية تبدو الحالة
العراقية نموذجية، فالاحتلال الأمريكي الإمبريالي للعراق عام 2003 قام على التلاعب بالهويات الطائفية بطرائق عديدة، فسياسات الهوية الطائفية كانت أحد أهم الخطوط الاستراتيجية للإمبريالية من خلال تفتيت المجتمع وتفكيك الدولة لضمان عمليات الهيمنة والسيطرة، وهي سياسة تاريخية موثقة للكولينالية المظفرة التي تقوم على رؤية استشراقية وثقافوية تحكمت في مسار الاستعمار التقليدي التاريخي البريطاني والفرنسي.
لقد عمدت الولايات المتحدة كقوة احتلال إمبريالية إلى تفكيك الدولة والمجتمع العراقي عبر استثمار التعدد العرقي الإثني والديني المذهبي كعامل هدم من خلال بناء العملية السياسية على أسس هوياتية مزدوجة عبر تأكيد الهويات العرقية الإثنية وانقساماتها بين عرب وكرد بصورة أساسية، وترسيخ الاختلافات الهويانية الدينية المذهبية بين السنة والشيعة بشكل رئيسي، وفي الوقت الذي مكنت فيه الولايات المتحدة الكرد من إدارة إقليم شبه مستقل، تمت مكافأة الشيعة وتمكينهم من الحكم بعد مساندة مرجعياتهم للاحتلال، أما السنة فقد جرى تهميشهم كإجراء عقابي لانخراطهم في النظام السابق ومعارضتهم للاحتلال، بحيث باتت عقيدة الإرهاب السني أحد مسلمات الاحتلال والإمبريالية.
عقب خروج قوات الاحتلال الإمبريالي الأمريكي من العراق نهاية 2011، باتت الدولة العراقية رهينة للسيطرة
الإيرانية التي سارت على ذات النهج الهوياتي، بالتنسيق مع دكتاتورية المالكي الذي دفع بالمسألة الطائفية إلى حدودها القصوى، وبعد سقوط الموصل في حزيران/ يونيو 2014 بيد قوى وفعاليات وحركات سنية عديدة تتقدمهم قوات "الدولة الإسلامية "، أصرت ثلاثية الاحتلال والإمبريالية والدكتاتورية على سياسة التلاعب الهوياتي الطائفي، عبر عملية تلاعب مركبة بتصوير ما يحدث باعتباره "إرهابا" وأصبحت الهويات السنيّة إرهابوية، وباتت ثلاثية الاحتلال والإمبريالية والدكتاتورية تختزل المشهد العراقي السني بظاهرة "الإرهاب"، دون الالتفات إلى المطالبات السنيّة العادلة بإصلاح مؤسسات الدولة وإنهاء السياسات الطائفية التمييزية التي تسببت بالانتفاضات الاحتجاجية الثورية في العراق التي تنامت منذ 2012.
سياسات الهوية الطائفية الإيرانية حولت العراق إلى دولة مليشيات طائفية، فعقب سقوط الموصل بدلا من التوجه نحو سياسة تقوم على الاعتراف بالمطالب السنيّة العادلة، انحدرت نحو مزيد من سياسات الهوية الطائفية،حيث دعا رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي علناً إلى إقامة ميليشيات شيعية، الأمر الذي استجابت له المرجعية الشيعية العليا بزعامة السيستاني بالإعلان عن فتوى "وجوب الجهاد الكفائي"، الأمر الذي أسفر عن ولادة قوات الحشد الشعبي (الشيعي)، وبدت الاستعراضات الطائفية مشهدا مألوفا لكافة التيارات الشيعية، بحجة حماية المراقد المقدسة، وعملت أذرع إيران على إعادة انتشار قواتها التي تقاتل في سوريا وعودتها إلى العراق كما فعلت "كتائب حزب الله" و"عصائب أهل الحق"، وتعمل هذه المليشيات بشكل وثيق مع الجيش العراقي و"قوى الأمن الداخلي"، وهي قوات تعتمد على المكون الشيعي، وقد ظهرت مليشيات شيعية جديدة عديدة بحجة "الدفاع عن العراق"، ومنها "سرايا الدفاع الشعبي"، كما أنشأت "عصائب أهل الحق" و"منظمة بدر" العديد من "اللجان الشعبية" المتمركزة في المدن، وأصبح قائد "الحرس الثوري" الإيراني قاسم سليماني يقود المليشيات الشيعية المتعددة الجنسيات بصورة علنية، ولم تعد الأجندة الطائفية لإيران خفية.
في هذا السياق لم يكن صعود تنظيم الدولة الإسلامية بعيدا عن الاسباب الموضوعية المتمثلة بالسياسات الطائفية الشيعية الإيرانية والإمبريالية الأمريكية، حيث لم يجد تنظيم الدولة الإسلامية صعوبة في بناء تحالف سني مع قوى وفعاليات وحركات عراقية على أسس هوياتية دينية، وتمكن من الظهور كدرع فعال في حماية وصيانة الهوية السنيّة الممتهنة بفعل سياسات إيران الطائفية، ورعايتها لسادة العراق الشيعة الجدد من المالكي إلى العبادي، فعلى مدى سنوات من الاحتجاجات السنية السلمية في العراق والحراكات الاحتجاجية السنية المسلحة في سوريا، برع تنظيم الدولة الإسلامية في البرهنة على خواء العملية السياسية وعدم جدوى المطالبات السلمية، وتصوير الصراع مذهبيا طائفيا بين السنة والشيعة، والتأكيد على غياب رؤية واضحة للدول السنية في المنطقة في التعامل مع إتلاف شيعي متحد تقوده إيران، كما برهن تنظيم الدولة الإسلامية على فشل سياسات النخب السنية العراقية في توفير الحد الأدنى من العدالة ومواجهة فساد العملية السياسية، وبهذا تحققت رؤية التنظيم بأن الطائفية هي المحرك الأساس للسياسات المحلية والإقليمية، وقد بلغت مقولة المحركات الطائفية أوجها مع دخول الثورة السورية عامها الرابع مع التدخل الإيراني الصريح في دعم نظام الأسد العلوي، ومن خلال الدفع بالمليشيات الشيعية العراقية وحزب الله اللبناني بصورة فجة، الأمر الذي أقنع قوى سنيّة فاعلة بمبايعة تنظيم الدولة الإسلامية والعمل تحت قيادته، وفي مقدمتها المجالس العسكرية المكونة من بعض أفراد الجيش العراقي السابق، والعناصر العشائرية المسلحة ومعظم جماعات المقاومة العراقية، أمثال: "الجيش الإسلامي"، و"حماس العراق"، و"كتائب ثورة العشرين"، و"جيش المجاهدين"، و"أنصار السنّة" و"جيش الطريقة النقشبندية".
لم تعد السياسات الطائفية الإيرانية في العراق خصوصا والمنطقة عموما اليوم بحاجة إلى البرهنة والإثبات، فقد تحول العراق إلى دولة مليشيات شيعية طائفية، وتبدو مشاركة بعض السنة في العملية السياسية مجرد اكسسوار لا قيمة له فعليا، فمن تكريت إلى ديالى لا نجد سوى القتل والحرق والانتهاك والتطهير للسنة دون خجل أو وجل، فقد نفذت المليشيات الشيعية بشكل ممنهج عملية تغيير ديمغرافي وتطهير مكاني تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وقد تضمنت سياسات التطهير الطائفي الممنهج طرد العراقيين السنّة وتوطين آخرين في مناطق جرف الصخر والسعدية وبلد والإسكندرية والبحيرات والجنابيين والمحمودية وفي قرى أبو غريب والطارمية وسامراء وبعقوبة والمقدادية والخالص وشهربان ومندلي، ومناطق أخرى، ونفذت مليشيات الحشد الشيعية أكثر من 10 آلاف عملية إعدام ميدانية بحق عراقيين مدنيين من السنة لأسباب طائفية، فضلاً عن تفجير وتدمير عشرات المساجد السنية.
لا جدال بأن الاتفاق الأخير حول الملف النووي الإيراني بين الولايات المتحدة والغرب (5+1) وإيران أطلق يد إيران في العراق والمنطقة، بحيث باتت شريكا في "الحرب على الإرهاب (السني)"، وأصبحت مليشياتها الطائفية طليقة اليد وتتمتع بالرعاية والحماية من المسائلة باعتبارها أداة رئيسبة في مواجهة "الإرهاب السني"، وعقب شهور من الخطابات البلاغية المتعلقة بالوحدة الوطنية للحكومة العراقية الجديدة برئاسة حيدر العبادي، الذي تعهد بالتخلص من سياسات سلفه المالكي الطائفية، كشفت الممارسات الممنهجة للحكومة العراقية عن تلبسها بسياسات الهوية الطائفية وتواطئها مع المليشيات الشيعية الطائفية، فقد برهنت معركة تحرير تكريت المزعومة وصولا إلى معارك ديالى عن قوة المليشيات الطائفية وتحكمها في مفاصل الدولة وعجز الحكومة المركزية عن لجم نهجها الهوياتي الطائفي واستراتيجياتها المستندة إلى حرب التطهير المكاني، حيث أصبحت بعض المدن والمناطق السنيّة مطهرة مكانيا من السنة بعد نهبها وحرق منازلها ومساجدها وقتل من بقي من أهلها، على أنغام ثارات الحسين وتحت رايات المليشيات الطائفية.
منذ سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الإسلامية، باتت الطائفية المحرك الأساس في إدارة النزاع والصراع، فبدلا من التوجه نحو سياسة تقوم على الاعتراف بالمطالب العادلة للمحافظات السنيّة، شهدنا جرعة مضاعفة من سياسات الهوية الطائفية، ولم تكن المسألة الطائفية بعيدة عن الرؤية الأمريكية فهي من دشن سياسات الهوية في العراق منذ احتلاله، فالاستراتيجية الأمريكية لمحاربة "الإرهاب" تتوافر على براغماتية هشة وضارة، فالاعتماد على قوى حليفة تمارس أعمالا إرهابية كالمليشيات الشيعية المتطرفة سوف يساهم في تنامي قوة هذه الميليشيات وسيطرتها على كافة أجهزة الدولة العراقية الهشة، وتعمل على ترسيخ سياسات التهميش والإقصاء للمكون السني، كما أنها تساهم في مد النفوذ الإيراني وهيمنته المضاعفة على العراق، الأمر الذي يجعل من تنظيم الدولة الإسلامية ممثلا حقيقيا للسنة في العراق مع عقم مشاركة السنة في العملية السياسية.
إن سياسات قوات التحالف المسندة من المليشيات الشيعية التي تواصل عمليات القتل وتمارس الانتهاكات الممنهجة ضد السنة تضع عموم السُنَّة أمام خيار تفضيل البقاء تحت سيطرة الدولة الإسلامية على عودة القوات الأمنية الشيعية إلى مدنهم ثانية، وتعصف بمحاولة بناء قوات الحرس الوطني، كما برهنت المعارك الأخيرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية على فشل "الحشد الشعبي" وهو التسمية الجديدة للمليشيات الشيعية، والذي وصفه رئيس الوزراء حيدر العبادي بالعمود الفقري للجيش العراقي، بإلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية، وقد كشفتت الأحداث المتلاحقة عن حالة انعدام الثقة بين السكان السُنَّة والأجهزة الأمنية التي يسيطر عليها الشيعة، كما كشفت عن طوباوية وعقم جدوى تشكيل قوة سُنيَّة تحمل اسم قوات الحرس الوطني، وبهذا فإن استراتيجية التحالف معرضة للفشل ما دامت لا تلتفت بشكل جدي إلى الأسباب الحقيقية لبروز تنظيم الدولة، وفي مقدمتها تهميش وإقصاء السنة وتنامي الطائفية وفشل العملية السياسية.