هذا العنوان اخترته من باب التأويب مع "هاشتاغ: أنا شاركت في ثورة يناير" الذي جرى إطلاقه مؤخرا، ربما ردا على حملة الهجوم على ثورة يناير، من قبل الثورة المضادة، والذي بلغ ذروته بتهجم نائب في "برلمان السيسي" على يناير. وعندما نعلم أن نفس النائب سبق له أن تقرب للثورة زلفى، وقال ما أضحك الثكالى ومن يعرفون أنه كذاب أشر، أنه أول من كان في الميدان في اليوم الأول للثورة، فسنقف على التغير الذي جرى بسبب مظاهرات 30 يونيو 2013، التي قادتنا إلى هذه المهزلة!
فهذا الموقف الحاد من الثورة، الذي عبر عنه النائب "الموتور"، لا يأتي من فراغ، فقد خرج الذين شاركوا في 30 يونيو، وأيدوا الانقلاب العسكري، وفوضوا السيسي على القتل، وروجوا له باعتباره عبد الناصر، من "المولد بلا حمص"، "قفاهم يقمر عيش"، كما يقول المثل الشعبي، فقد تعاملوا مع اليوم الذي احتشدوا فيه لإسقاط الرئيس المنتخب على أنه موجة ثورية جديدة، فأثبتت الأحداث أنهم لم يكونوا سوى مجموعة من المغفلين، الذين خانوا ثورتهم بالغيب، ومكنوا الجنرال المقرب من مبارك من أن ينتصر له، ويحمي دولته، ويعيد نظامه الذي لم يكن قد سقط ولو ليوم واحد، حتى صارت ثورة يناير عارا وهي التي كان يدعي الجميع وصلاً بها، حتى الذين لم يشاركوا فيها، ولم ينحازوا لها، وحتى الذين تآمروا عليها في المجلس العسكري. فهى الآن مؤامرة في عقيدة القوات المسلحة عبر عنها بذلك المشير محمد حسين طنطاوي، الذي طالما روجنا لقصص الأطفال التي تقول إنه انحاز للثورة ليمنع التوريث، وإنه رفض قرار مبارك بإطلاق النار على المتظاهرين، كما أنه حمله على التنحي، إلى غير هذه الترهات، مع أنه ومدير المخابرات العامة وباقي الحاشية تسمرت أقدامهم في مواضعها على باب مكتب مبارك بعد أن اتفقوا على ضرورة أن يطلبوا منه فقط إقالة وزير الداخلية "حبيب العادلي"، لامتصاص غضب المتظاهرين، لكن من يجرؤ على الإبلاغ، ومن أين لهؤلاء المستخدمين الأراذل خدم البلاط، الشجاعة ليتجرأ أحدهم ويخاطب مبارك بمطلب اتفقوا عليه جميعا لحماية عرشه؟
دعك من أن التهجم على الثورة جاء علي لسان من عُرف بالانفلات، فلولا علمه بأن عبد الفتاح السيسي عدو لهذه الثورة، لما تجرأ، وهو المنفلت الواعي الذي يعرف متى يتصرف على أنه "مجنون"، ومتى يلتزم الحيطة والحذر ويصبح عاقلاً، وما فعله في برلمان الانقلاب من هجوم على يناير، هو لأنه يعلم أن ما قاله سيجد هوى عند السيسي، لأنه لولا حمايته لتم تقديمه للمحاكمة بتهمة إهانة الدستور، وهو أمر مجرم قانونا، لكن السيسي الآن في مرحلة نفض يده تماما من ثورة يناير، فليس هناك ما يبرر الاستمرار في القيام بدور حامي هذه الثورة، وقد انتصرت الثورة المضادة. وإذا كانت الضرورة حتمت في البداية النص في الدستور على الثورتين، فلا مبرر للاستمرار في ذلك الآن، بعد النصر المبين للانقلاب العسكري، وإذا كانت الفرصة ليست مواتية لتعديل الدستور ورفع يناير من الديباجة، فلا مانع من استباحة النص، إلى أن يحين الحين، ويصبح "اللعب على المكشوف"!
نعم "أنا شاركت في ثورة يناير"، ولا تصدقوا من يقول لكم إن الأجواء كانت مواتية بشكل أفضل من الآن للقيام بالثورة، وإن نظام مبارك لم يكن قويا، وإن الشعب
المصري كله كان معنا، أو أن الثوار كانوا من نوعية غير موجودة الآن، أو أننا كنا ندرك أن دولة مبارك لديها خط أحمر في التعامل مع المتظاهرين، إلى غير هذا من دعاية رائجة تثبط الهمم، وبعضها يردده من شاركوا في يناير!
كان وزير داخلية مبارك "حبيب العادلي" قد أحكم قبضته الأمنية على البلاد، ولم يكن هناك أحد يجرؤ على أن يعارضه أو يناقشه، بمن في ذلك كل أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة "بربطة المعلم طنطاوي"، والذين كانت هواتفهم تحت المراقبة وكانوا يعلمون ذلك، وكانت تقارير مباحث أمن الدولة هي التي تتحكم في كل شؤون التعامل مع القوات المسلحة ومن الالتحاق بالكليات العسكرية إلى الاستمرار أو إنها الخدمة، إلى التعيين في المواقع الكبرى!
وقد نسينا الآن كيف أن "العادلي" في الاحتفالات بأعياد الشرطة قبيل الثورة أخبر مبارك أن جهاز الأمن ألقى القبض على الجناة الذين قاموا بتفجير كنيسة القديسين، وحطت الكاميرا على وجه النائب العام "عبد المجيد محمود"، فإذا بوجه خشبي محايد، لا يستطيع أن يعطي انطباعا بعدم العلم، وكان الجنين في بطن أمه يعلم أنه ليست لديه معلومات، وأثبتت الأيام أنه لم يوجد جناة تم إلقاء القبض عليهم أو تقديمهم للمحاكمة، في حادث لا يزال الاتهام فيه إلى الآن معلقا في رقبة "العادلي" نفسه!
وكان وزير الداخلية المذكور، قد أعلن أن كل هواتف المصريين تحت المراقبة، وأن من يخاف لا يتكلم، وهذا يمثل جهرا بالمعصية، ومخالفة صريحة لنصوص الدستور، التي تحظر المراقبة، لكن الدستور والقانون كانا في إجازة!
كما أن مصر كانت خرجت توّا من انتخابات برلمانية، قام فيها الحزب الوطني بمساعدة أجهزة الأمن بتزويرها بشكل غير مسبوق، وإذا كان الأمين العام لهذا الحزب "صفوت الشريف" قد اتفق مع بعض قادة المعارضة على منحهم بعض المقاعد في البرلمان للحفاظ على الشكل بعد أن تقرر استبعاد الإخوان كلية، فقد أطاح الرجل القوي في الحزب وأمين التنظيم "أحمد عز" بهذا الاتفاق، وغضب مبارك في البداية، لكن جرى إفهامه أن هذه شعبية الحزب الوطني. وفي افتتاحه لبرلمانه كان يحسب أن لن يقدر عليه أحد فنادى أنه سيظل يحكم ما دام هناك نفس يخرج وقلب ينبض. وفي مواجهة المعارضة التي شكلت برلمانا موازيا قال ساخرا: "خليهم يتسلوا"، ونكاية في المعارضة طالب نائب من مبارك أن يعيد ما قال، وهو ما علقت عليه في مقالي الأسبوعي بجريدة "القدس العربي"، إنه يتعامل مع مبارك على أن "الريس متقال"، مطرب "المواويل"، وليس رئيس دولة!
وبدا واضحا أن دولة مبارك سيطرت على المشهد، لتعيد البلاد إلى ما قبل الحراك السياسي الذي بدأ في سنة 2004، فوزير الإعلام يحاصر الإعلام، بل ويتصرف مع قناة تلفزيونية بحجم الـ"بي بي سي"، على أنها "الفراعين"، فيغلق الأستوديو ليمنع برنامجا لها على الهواء من مدينة الإنتاج الإعلامي!
وفي المقابل فقد كان الحراك السياسي في أضعف حالاته، بعد عدة موجات بدأت بتأسيس حركة "كفاية"، فانتفاضة القضاة، فعودة البرادعي، وكانت كل حركة مد تعود مرة أخرى إلى حالة الجزر والسكون، وبعد حماس بعودة الدكتور محمد البرادعي عاد اليأس يلفنا من جديد، وتقلصت أعداد المشاركين في "الوقفات" على "سلالم نقابة الصحفيين"، إلى عشرة أشخاص أو أكثر قليلا، يتعرضون لتطاول المارة الذين يتهمونهم بأنهم يخربون البلد، حتى قررت ألا أشارك في هذه الوقفات!
ذات مرة كانت "وقفة" وكنت أعبر "السلالم" إلى داخل مبنى النقابة، عندما طالبني أحد الواقفين بالمشاركة، على طريقة "آجر"، وهي كلمة تقال للحث على تشييع الجنائز، ووجدتني أقول له: أول مظاهرة سأشارك فيها بعد الآن هي التي ستتوجه للقصر الجمهوري. ولم أكن أتنبأ بشيء، فقد قلتها ساخراً!
كان نادي القضاة قد شهد انتخابات، احتشدت فيها السلطة وراء قائمة مرشحها أحمد الزند، فنجحت وسقط تيار الاستقلال، ومعظم رموزه سافروا للخارج في إعارات، وكان الذين التفوا حول البرادعي وقفوا على أنه ليس "تحت القبة شيخ"، والرجل يخشى الجماهير، ولا يأنس للناس، ولديه حساسية شديدة تجاه من مارس السياسة في عهد مبارك، ومن يريد أن يتواصل معه فليتصل بشقيقه "علي"، وفي مرحلة لاحقة، صار على أعضاء الجمعية الوطنية للتغير التي شكلوها على غير رغبته، وكانت اقتراحا من الدكتور حسن نافعة، إذا أرادوا الاتصال بالبرادعي فإنهم يتصلون بشخص ثالث ليحيلهم لـ"علي"، لينقل الأخير الرسالة إلى شقيقه الأكبر ويأتي بالرد!
وفي "كفاية" كان اليأس قد بلغ مداه، عبر عنه تيار داخلها مثله "أحمد بهاء شعبان" في مواجهة تيار يمثله "عبد الحليم قنديل"، وقد خاضا الانتخابات متنافسين على موقع "المنسق العام" للحركة، وكان واضح أن هناك اتجاهين وليس مجرد شخصين!
"بهاء شعبان" الذي لم يكن أحد يشكك في استقامته السياسية، كان بتياره يتبنى فكرة التوقف عن الهجوم على "جمال مبارك"، بل لا مانع من الترحيب بقدومه رئيسا باعتباره سينهي مرحلة الحكم العسكري، وليكون مجيئه خطوة يمكن البناء عليها!
لكن تيار "عبد الحليم قنديل"، كان مصرا على البرنامج التأسيسي للحركة بلاءاته الشهيرة "لا للتمديد.. لا للتوريث.. لا للاستبداد"!
وإذا كانت نتيجة الانتخابات أسفرت عن فوز "قنديل"، فإن وجود الخطاب الذي يعبر عنه "بهاء شعبان" داخل "حركة كفاية"، لا تخفي العين دلالته فهو كاشف عن حالة اليأس من القدرة على التغيير، إذن فلا مانع من أن يكون التغيير من داخل النظام ليرث مبارك الابن مبارك الأب!
وقد جاءت الثورة التونسية لتمثل ضوءا في النفق المعتم، وأن المظاهرات السلمية يمكن أن تسقط نظاما قويا، فلسنا بحاجة إلى دبابات وصواريخ لمواجهة دبابات مبارك وصواريخه!
لكنها كانت مجرد ضوء، وحدثت محاولات لتقليد المشهد التونسي باءت بالفشل من خلال قيام أحد الأشخاص بإشعال النيران في نفسه أمام البرلمان تقليدا لأيقونة الثورة التونسية، لكن جرى إنقاذه وقيل إنه يعاني من أزمة نفسية، وإنه لم يكن جادا في الانتحار!
كانت هناك تفاصيل في المشهد التونسي كنت أدركها، فلم يتبدد لهذا اليأس داخلي، فالثورة التونسية قامت بها الطبقة المتوسطة، التي اتسعت رقعتها في تونس بشكل بالغ، وانكمشت في مصر بشكل لافت، ولست مؤمنا بثورة الفقراء أو ثورة الجياع، فالفقراء في مصر يحلون مشاكلهم بوضع أيديهم في جيوب غيرهم؛ ترتفع الأسعار، فيرفع المدرس ثمن حصة الدروس الخصوصية، ويرفع السائق ثمن الأجرة، ويرفع التاجر ثمن البضاعة، ويرفع الموظف قيمة الرشوة على الخدمة التي تسمى "إكرامية"!
ثم إن المشهد التونسي ترك في نفسي أسئلة لم أعثر لها على إجابات، لقد هرب بن علي، في لحظة كانت فيها الجماهير تنصاع لقرار حظر التجول، وعندما كان البعض يحتفي بصورة هذا الرجل الذي وقف في شارع الحبيب بورقيببة (قلب الثورة) لينادي على شعب تونس العظيم ويخبره بأن بن علي هرب، نظرت إلى أبعد من الصورة، إنه يقف بمفرده بينما شعب تونس العظيم في البيوت، فمن من هرب بن علي؟!
فالضوء الذي في آخر النفق، "لم يتراء لي"، ولم تكن الصورة مبشرة في يوم
25 يناير، وأنا أرى الدكتور محمد البلتاجي وأبو العلا ماضي وآخرين على سلالم دار القضاء العالي يحيط بهم كردون أمني، وهناك امرأة تحمل علم مصر تلوح به وتسبهم قبل أن ينضم إليها شخص ملتح هتف ضد المتظاهرين واتهمهم بأنهم ينفذون مخطط تدمير مصر بواسطة البرادعي الذي دمر العراق!
وحتى عندما وصل حشد جماهيري سرت معه في بعض شوارع وسط القاهرة إلى أن وصلنا ميدان التحرير، تبدد الأمل بعد ساعات وأنا استمع لتصريحات في نشرة الأخبار بقناة "الجزيرة" لوزيرة الخارجية الأمريكية تعلن فيها أن الحكومة في مصر قائمة، وتبدد الأمل كذلك بعد منتصف الليل عندما اقتحمت قوات الأمن ميدان التحرير وطاردت المتظاهرين بعنف. لكن مع كل اليأس الذي مر بنا، والمساندة الأمريكية للنظام القائم، والرأي العام الذي جرى شحنه ضد الثورة والثوار، فقد تنحى مبارك!
"فرجه قريب"!