عرف في تراثنا الفقهي؛ ما يسمى بفتاوى النوازل، أي ما ينزل بالمسلمين من أحكام جديدة لم تكن موجودة من قبل، ولأن الإنسان المسلم يهتم دوما بضبط أموره الحياتية حسب ما يأمره به دينه، ولذا فهو يحرص على معرفة حكم الشرع فيما يجد له من أمور، ونحن نعيش في حالة انقلاب عسكري، زاد فيه الفجور والبغي، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: يحدث للناس أُقضية، بقدر ما أحدثوا من فجور.
فهناك فتاوى تأتيني من المسجونين، أو من ذويهم، تدل على المرارة والمعاناة الشديدة التي يعانيها المعتقلون والمسجونون في سجون
الانقلاب العسكري في
مصر، فأسئلة أهل السجون تبدأ من العبادات، مرورا بالمعاملات، والاجتماعيات، والسياسة، وعرض بعض النماذج يخبرنا عن كم المعاناة التي يعانيها المساجين، وكم التعذيب البدني والنفسي الذي يمارس عليهم رجالا ونساء.
فمن أسئلة العبادات التي تأتيني التالي: أفتنا هل يجوز شرعا لنا التيمم، حيث إن المياه التي لدينا قليلة جدا، ولا تكفي، وهل يجوز لنا الجمع بين الصلوات حيث إن الزنزانة ضيقة جدا لا تتسع للعدد الكبير الموجود داخلها، ولا نستطيع الحصول على المياه التي نتوضأ بها لكل فرض صلاة؟ فهل توفيرا للمياه التي لا توجد بما يكفي، نتيمم، أو نصلي جامعين بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، لعدم استطاعتنا توفير الماء الكافي للوضوء لكل فرض، والمكان الكافي لصلاتنا جميعا، حيث إننا لو تناوبنا على الصلاة، مع كثرة العدد فوقت الصلاة الواحدة لا يكفي العدد؟ وإذا التبس علينا أوقات الصلاة ماذا نفعل؟ فنحن تصادر منا ساعات اليد، التي عن طريقها نعرف مواقيت الصلاة، ويتعمد السجانون ذلك حتى لا نعرف وقت الصلاة، ولا يوجد مسجد قريب من السجن نسمع منه الأذان، كما أن الزنازين ضيقة جدا، ومعتمة فلا نستطيع التفرقة بين ليل ونهار، أو تحديد وقت الليل والنهار.
وهل يجوز أن نصلي صلاة الغائب على من يموتون لنا من أقارب خارج السجن، ونعرف بوفاتهم، ونمنع من حضور الجنازة، فهل يحل لنا ذلك؟
ومن الأسئلة المؤلمة سؤال وصلني من إحدى الزوجات، كتبته وكلها حرج شديد، نظرا للتنشئة الملتزمة التي نشأت عليها، وثقافة الحرج من الناس، في فعل أمر مباح لها، وهو: أن زوجها عند زيارته في الدقائق المحدودة التي تراه فيها، وأحيانا يستطيع أن يلتقي وجهه بوجهها، فكان يحتضنها بلهفة في بادئ الأمر، ثم بعد ذلك تقول: لاحظت في آخر زيارة أنه قبلني أمام الناس في الزيارة قبلة حارة، وأحسست بحرج شديد، فهل نتحمل ونتماسك، أم إن هذا حق له، ولا أبالي بالناس ولا بالسجانين ونظرتهم؟ وهل يجوز على مرأى من الناس أم لا؟!!
ومن أكثر الأسئلة التي آلمتني وأبكتني، سؤال وردني من أم أحد الشهداء، وقد اتصلت بي، وهي تبكي بحرقة: أن ابنها قد أوحشها، ولا تطيق فراقه، وقد مر أكثر من عام على استشهاده، فذهبت وفتحت القبر ودخلته لترى جثمان ابنها، كانت تسأل وهي تبكي، هل ما فعلته جائز أم لا؟ وهل يؤاخذها الله على فتح القبر، وقد فعلت ذلك برغبة ملحة وشوق ولهفة شديدة لابنها الوحيد الذي استشهد على يد مجرمي العسكر.
أما السؤال الذي وردني ولم يحتج المساجين فيه إلى إجابة، فكان هو: ما حكم من يطلب منه كتابة تبرؤ من الإخوان المسلمين، ونفي أي صلة بهم، وذلك مقابل الإفراج عنه، وهل يقبل الإنسان بذلك من باب جواز النطق بكلمة الكفر، وأنها رخصة له، عملا بقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان). وقلت: إن المساجين لم يحتاجوا لإجابة عن السؤال، وذلك لأنهم قاموا بالإجابة من أنفسهم، وكانت إجابتهم العملية إنهاء لأي إجابة نظرية يفتيهم بها أي فقيه، وهي: لا مجال لدينا لهذا السؤال، ولا للتفكير في العمل به، بل كانت إجابة أحد الشباب الذي كانت علاقته بالجماعة قبل الانقلاب قد خفتت قليلا، فكانت إجابته في السجن: معكم حتى ألف عام مقبل في السجن إن شاء الله.
كل هذه الأسئلة لم أجد صعوبة في إجابتها، بل ما أسهلها على كل دارس للفقه، يمتلك ملكة فقهية يحسن بها الإجابة عنها، لكن سؤالا أهم كان يشغل بالي، أعجز حتى الآن عن إجابته، وهو: ما الوسيلة الناجعة التي أقوم بها وغيري لإنهاء هذا الظلم الواقع على هؤلاء البرءاء، من هؤلاء الظلمة الفجرة، ومتى نفيق ونتوحد جميعا على قلب رجل واحد، لتخليص خير من أنجبت مصر من كل فئات الشعب الطاهر البريء؟! فهل لدى أحد ممن هم خارج السجون إجابة عن هذا السؤال؟!!
[email protected]