هزت المدن
التونسية في الأيام الماضية موجة احتجاجية بدأت من مدينة القصرين في الوسط التونسي ومنها امتدت إلى مدن أخرى حول أنحاء البلاد، وكان المطلب المشترك بينها المطالبة بتوفير الشغل وتحسين ظروف العيش. تحدث هذه الاضطرابات بعد أيام قليلة من الاحتفال بنيل تونس جائزة نوبل للسلام في النرويج على خلفية نجاحها في شق طريقها نحو ديمقراطية ناشئة في محيط مليء بالاضطرابات والحروب. نظمت العديد من المحافل والندوات البهيجة للاحتفاء بتونس، ونالت قدرا كبيرا من المديح والثناء من طرف الدول الغربية الكبرى.. لكن لا شيء أكثر من ذلك.
ثمة مجموعة من العوامل تقف خلف هذه الانتفاضة الفجائية والسريعة التي سرت في المدن التونسية:
1- إن التقدم السياسي الذي أنجزه التونسيون لم يواكبه أو يوازه تقدم ملموس على الصعيد الاقتصادي والتنموي خصوصا في المدن الداخلية والجنوبية التي انطلقت منها الثورة، هذا إن لم تزدد أوضاعها بؤسا مما كانت عليه بسبب تراجع العجلة الاقتصادية، وضعف مداخيل الدولة بفعل المشكلات السياسية الداخلية وتأثيرات المحيط المباشر خصوصا في ليبيا.
ما زاد في تعقيد الوضع التونسي جانبان اثنان، أولهما أن الثورة التونسية شأنها في ذلك شأن كل الثورات الحديثة تقريبا قد أطلقت العنان للانتظارات والتوقعات العالية، خصوصا بين الفئات الشبابية والطبقات المحرومة التي كانت الوقود المحرك لثورة 2011. كان التصور الغالب أن كل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية سيتم التخلص منها بمجرد إسقاط نظام بن علي، بيد أن الأمور على الأرض لم تشهد تحسنا ملموسا على صعيد التشغيل وظروف العيش والتعليم والصحة لصالح هذه الفئات. أما العامل الثاني فيعود لكون أن ما يربو على 50 بالمائة من الشباب العاطلين هم من خريجي الجامعات الذين ارتفعت طموحاتهم بارتفاع مستواهم التعليمي مقابل واقع مرير يعيشونه في حياتهم اليومية.
لا أحد يستطيع أن يشكك في مستوى التقدم الذي أحرزته تونس على صعيد التطور الديمقراطي منذ إطلاق ثورتها يوم 17 ديسمبر 2010 من مدينة سيدي بوزيد، إذ يتمتع التونسيون اليوم بقدر واسع من حرية التعبير والاجتماع والتنظم غير مسبوق في تاريخهم الحديث، بعد تخلصهم من القبضة الحديدية لنظام بن علي الدكتاتوري. نجحوا في سن دستور ديمقراطي هو الأكثر تقدمية في المنطقة، وأنجزوا انتخابات تشريعية ورئاسية أواخر السنة الماضية تظل الأكثر حرية وشفافية مقارنة بالانتخابات المزيفة والمصطنعة في سائر دول المنطقة، وتمكنت نخبتهم في أجواء الأزمة السياسية التي عصفت بالبلد سنة 2013 وكادت تنزلق بها إلى أجواء شبيهة بليبيا من عقد تسويات وتوافقات سياسية أمنت المسار الانتقالي الديمقراطي في البلد. هكذا بقدر من العقلانية والحكمة تمكن التونسيون من مغالبة إكراهات الجغرافيا من حولهم المتقلبة بين الحروب الأهلية والحكم التسلطي والعسكري.
بيد أن هذه النجاحات السياسية من انتخابات وبرلمان ودستور وغيرها ظلت شأنا نخبويا ولم تكن لها انعكاسات مباشرة على الحياة اليومية للمواطنين. أما القوى الدولية التي أغدقت الكثير من المديح والثناء على الاستثناء الديمقراطي التونسي فإنها لم تقدم شيئا يذكر فعليا من أجل دعم هذه التجربة الوليدة وترسيخ أقدامها، ما عدى التظاهر بدعم الديمقراطية في المنطقة خدمة لصورتها في العالم الإسلامي كمناصرة للحرية والتغيير. فقد تبخرت وعود مؤتمر دوفيل التي أطلقت بعد ثورات الربيع العربي بأسابيع قليلة ولم يصل خزينة تونس شيء منها. أما الكونغرس الأمريكي فقد بلغ سخاؤه على الديمقراطية التونسية حد اقتطاع 50 مليون دولار من أصل مساعدة زهيدة لا تزيد عن 134 مليون دولار جلها موجه لمراقبة الحدود مع ليبيا.
2- زادت الانقسامات السياسية التي عصفت بنداء تونس، الحزب الحاكم، الذي تكوّن على عجل لمواجهة الترويكا، ونجح فعلا في الحصول على الأغلبية في انتخابات السنة الماضية مستفيدا من مناخات التذمر التي أعقبت الثورة، ثم الوعود الخلابة التي أطلقها لحل كل المشكلات الاقتصادية والتنموية للبلد بحكم ما يتوفر عليه من رجالات دولة، وكفاءات قادرة على إدارة شؤون الحكم والاقتصاد خلافا لرجالات الترويكا الفاشلين على ما روج في حملته الانتخابية. إلا أنه بعد أسابيع فقط، بدأت الانقسامات تنخر هذا الحزب الناشئ، وأخذت كتلته البرلمانية تتآكل وتتوزع إلى مجموعات متصارعة فيما بينها تتنابز في المنابر الإعلامية والساحات العامة، بما زاد في تيئيس الناس وتراجع الثقة في الطبقة السياسية إلى حد بعيد، على النحو الذي بينته أغلب استطلاعات الرأي.
3- لم تسلم تونس من تأثير الاستقطاب الإقليمي في المحيط من حولها، حيث تشكل محور إقليمي مناوئ للربيع العربي مصمم على إسقاط ما تبقى منه من خلال إثارة الصراعات والانقسامات الداخلية وتشجيع المجموعات المناوئة للتوافق السياسي والتجييش الإعلامي. وبعد الإطاحة بالحكام المنتخبين بمصر ثم تخريب الوضع في ليبيا واليمن، أضحت تونس تتصدر قائمة الاستهداف، في آخر حلقات الربيع العربي المغدور به من أجل ترسيخ الرواية المحببة لهؤلاء القائلة بأن الديمقراطية لا تصلح للعالم العربي، وهي جزء من المشكل لا الحل.
رغم كل الفتن وعمليات التأليب والتأجيج التي حركتها آلة الاستبداد العربي تمكنت تونس من امتصاص موجة الغضب الأخيرة بقدر من النجاح، حيث تعاملت المؤسسة الأمنية مع التحركات بقدر لافت من المهنية وضبط النفس، فلم يسجل أي ضحايا في صفوف المحتجين بعكس الأمنيين الذين سقط منهم قتيل وأصيب عشرات الجرحى، وهو أمر غير معهود في منطقتنا العربية. صحيح أن الديمقراطية لا تقدم حلولا سحرية لكل المشاكل والصعوبات، ولكنها تخفف من حدة الأزمات من خلال ما تتيحه من قنوات تعبير حر ومسالك احتجاج مشروع.
لقد وجه المحتجون في المدن المتظاهرة المنسية منذ عهد البايات مرورا بحقبتي بورقيبة وبن علي، رسالة واضحة وقوية للطبقة السياسية مفادها أن الديمقراطية ليست دستورا وانتخابات وبرلمانا فحسب، بل هي أيضا استحقاقات اجتماعية واقتصادية في مقدمتها الحق في التنمية والتشغيل وتحسين ظروف العيش. بدون توزيع عادل للسلطة والثروة بين الجهات والفئات الاجتماعية لتحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة تبقى الديمقراطية عرجاء هشة وقابلة للاهتزاز في أي وقت من الأوقات.