قبل حوالي ثمانية وثلاثين عاما، يوم الخميس 26 جانفي 1978، خرق حدث هائل الصمت الطويل للحراك الاجتماعي في
تونس، ومثل محطة فارقة لتصدع دولة
الاستقلال. بعد مرور كل هذه السنوات يبقى الحدث مرجعيا ومنبئا عما حصل في تونس فيما بعد. ارتبطت بالحدث عديد الشخصيات والمنظمات والأحزاب التي ستبقى مؤثرة في تاريخ تونس المعاصر، بالإضافة إلى ذلك لدي ارتباط خاص بهذا الحدث.
إذ كان الوالد من ضمن القيادة النقابية التي تم اعتقالها يوم الإضراب العام الذي أعلن عنه الاتحاد العام التونسي للشغل، ولازلت أذكر غيابه وقلق العائلة والليالي الأشبه بالكابوس؛ حيث كانت وحشية النظام آنذاك بارزة إلى حد تصل إلى فهم طفل الأربع سنوات الذي كنته. ثم المحاكمة واحتجاجات أمي الحامل وعائلات المعتقلين، ثم زيارته في السجن وولادة أخي الذي أسمته القيادة النقابية المعتقلة بالإجماع "نضال". كنت صغيرا لكن ما حدث ترك في مخيلتي ونفسي أثرا لا يمحى. وأحسب أن هذا الأثر هو ذاته الذي بقي بدرجات متفاوتة لدى غالبية الناس؛ تحول دولة ومؤسساتها بشكل واضح وبلا مساحيق إلى خصم، عوض أن تكون حاميا للناس.
مما لا شك فيه أن المسار الذي أفضى إلى حدث الإضراب العام وخاصة المجزرة الدموية التي أعقبته، حوالي 400 شهيد في ظرف بضعة ساعات، فيما أصبح يعرف بـ"الخميس الأسود"، التي لم يحاسب عليها أحد إلى الآن، رغم أن المسؤولية تقع بوضوح على كاهل القيادة السياسية للدولة ومليشيات حزب "الدستور" الحاكم، لا شك أنه مسار معقد. وإن لم يكن حصرا حدث صدام اجتماعي، حيث تداخلت الصراعات السياسية والشللية داخل السلطة، وبينها وبين القوى الإقليمية خاصة نظام القذافي وساهمت فيما حصل.
لكن مما لا شك فيه أيضا، أن ذكرى مجزرة 26 جانفي 1978 هي ذكرى فشل سياسة رئيس الحكومة الهادي نويرة، وأحد المرشحين آنذاك لخلافة الرئيس الحبيب بورقيبة. السياسة التي وصفت كثيرا بـ"الليبرالية" بيد أنها لم تكن "ليبرالية" بقدر ما كانت تأسيسا لرأسمالية المحاباة، والتأسيس لوظيفة التبعية والسمسرة "للبيزنس" المحلي؛ إذ كانت أهم "إصلاحات" نويرة تمرير قانوني أوت 1972 وإفريل 1974 التي تم فيها الانتقال من سياسة سعت بعد الاستقلال، رغم كل الأخطاء، إلى بناء نسيج صناعي محلي قوي، إلى تحويل المجال التونسي إلى ملحق في المجال الصناعي الأوروبي، خاصة في صناعات النسيج.
وعموما توسعت الشرائح العمالية بشكل سريع من الخمسينيات حتى السبعينيات؛ "إذ مرّ عدد العمّال الأجراء من 150 ألفا سنة 1956 إلى 500 ألف في بداية السبعينيات، وبرزت تجمّعات عمّاليّة في عدد من المدن الكبرى، ونمت أيضا نسبة القادرين من بينهم على القراءة و الكتابة إلى 80%" (فاروق الصياحي: موقع "أحوار" 26 جانفي 2012). بيد أنها أصبحت تواجه أكثر فأكثر ظروفا صعبة. وأهم الدلائل على أن 26 جانفي 1978 لم يكن مجرد "مؤامرة" في سياق مكائد القصور، وصراع الخلافة (مثلما يردد إلى الآن أنصار نويرة)، وأنه تعبير أقصى على حالة حراك اجتماعي جدي، هو أنه سبقته سلسلة إضرابات تزايدت بوضوح سنة 1977 وكثيرها لم يكن يحظى بموافقة أو رضا القيادة النقابية، التي كان بعضها قريبا جدا من السلطة (الزعيم النقابي التاريخي الحبيب عاشور كان عضوا في الديوانت السياسية للحزب الحاكم قبل استقالته). ففي "صائفة 1977 شهدت غلاء فاحشا في الأسعار، وفي هذه السنة بلغ عدد الإضرابات حسب المصادر الرّسميّة 452 إضرابا مقابل 372 سنة 1976 و301 سنة 1975، بينما لم يتجاوز 150 سنة 1972."
المعضلة أن الفكر الاقتصادي السائد في تونس يقدم هذه الفترة على أنها من أفضل فترات "النمو"، والرواة السياسيون المعاضدون لهذا الفكر يختزلونها في مناورات سياسوية في إطار القصر وعصابات "مندسين"، وأن لا أسباب اقتصادية اجتماعية تبررها. تماما مثل رواياتهم حول انتفاضات الحاضر من ديسمبر 2010 إلى بعض الهبات الاجتماعية مثلما حدث الأسبوع الفارط.
حينها وبعدها ستبقى هذه الذكرى ليس فقط أكبر جرائم الإبادة المنظمة لدولة ما بعد الاستقلال البورقيبية "التنويرية"، بل أيضا أحد المحطات البارزة التي تشير إلى الفشل المزمن لمنوال لاتنموي يؤسس لاقتصاد شبكات المحاباة.
والأحداث لاتزال تلقي بظلالها على الحاضر حتى في مستوى شخوصه. ومما تم كشفه مؤخرا هو وثيقة تتعلق باصطفاف الرئيس التونسي الحالي قائد السبسي ضد النقابيين آنذاك،إذ كان محاميا في تلك الفترة وكثيرا ما روج أنه بعد انشقاقه عن النظام، أدى دورا حقوقيا. وقد نقل الصحفي ضياء الهمامي ما يلي: "بعد لحظات من افتتاح جلسة محكمة أمن الدولة بتاريخ 29 سبتمبر 1978 المتعلقة بأحداث جانفي 1978 بدأ القاضي بقراءة أسماء 18 محاميا، تم تعيينهم من المحكمة للدفاع عن النقابيين المتهمين. فتقدم أحدهم وطلب من القاضي أن يعفيه من هذه المهام؛ نظرا لتعارضها مع صفته "شاهد ضد المتهم" ... اسم هذا المحام هو "محمد الباجي بن حسونة قائد السبسي" (المصدر: تقرير عدد 1978TUNIS07014 من السفارة الأمريكية بتونس إلى وزارة الخارجية الأمريكية.)
الحقيقة، لايزال الرئيس وحزبه والتحالف الحاكم الذي يمثله بحزمة القوانين التي يدافعون عنها وبميلهم لمصالح اللوبيات يدافعون ذات النمط الاقتصادي ذاته، الذي أنتج جانفي 1978 وكل الانتفاضات اللاحقة. وحرصوا عموما على رؤيتها ضمن منظار "المؤامرات" و"المندسين". أن الرسائل التي ترسلها هذه السلطة إلى التونسيين، لا تسعى الحقيقة أن تقنعهم بأننا إزاء تحولات جذرية. إذ إن الفساد الذي يقلق التونسيين وكان من أسباب الاحتجاجات الأخيرة، تزايد بشكل كبير ويتسبب مباشرة في نقص النمو الاقتصادي. ومع وجود حوالي 9 آلاف ملف فساد أمام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، كشفت هذا الأسبوع احد الصحف أن الكهرباء مقطوعة على مبنى الهيئة على4 طوابق من 6 وتفتقر لسيارات وسائق ومعاون، من أجل إيصال المراسلات والقيام بالأعمال الموكولة لها، والكمبيوتر المركزي للهيئة معطب وينتظر الإصلاح. ورئيس الهيئة الذي تم تعيينه مؤخرا يفكر في الاستقالة بسبب ذلك.
من جهة أخرى، تم الإعلان هذا الأسبوع عن مضاعفة أجور المديرين العامين للبنوك العمومية خمسة أضعاف؛ البنوك ذاتها التي ضخت فيها الدولة حوالي 800 مليار بسبب عجزها الناتج أساسا عن عدم إرجاع "رجال أعمال" الحاشية قروضهم إليها، ورغم التدقيق فيها وإرسال حوالي مئتي ملف فساد للقضاء لم يتم البت فيها. في حين يتم البت بسرعة قياسية في سرقات بعض اللصوص الذين اندسوا في الحراك الاجتماعي الأخير، وسرقوا بعض الثلاجات وتم تضخيم ما حدث بما شوه هذا الحراك. حتى إن رساما للكاريكاتور سخر مما يحدث بصورة علق عليها: "الفريجيدار (الثلاجة) رجعت والقروض وقتاش؟".
سياسات الكيل بالمكيالين سبب أساسي للاحتقان، كان دائما ذلك المشكل. ليس المشكل أساسا "كسل" التونسيين و"ضعف الإنتاجية" (رغم وجود بعض ذلك). المشكل هو في شعور الناس بغياب العدل وهيمنة التمييز بين المواطنين بما يكرس تمايز القلة في مواجهة تهميش الأغلبية. وما لم تحل هذه المعضلة سنرى الاحتقان متواصلا ولن ينتهي.