رغم أن الدستور
التونسي الجديد يمنح صلاحيات محدودة لرئيس الجمهورية، ورغم أن البلاد قد انتقلت "دستوريا" من نظام رئاسي إلى نظام برلماني معدل، فإنه من الصعب على المهتم بالشأن العام أن يعثر على أدلة واقعية تفيد انتقال مركز القرار من قرطاج -مقر إقامة رئيس الدولة-، إلى القصبة حيث يُفترض أن يكون رئيس الحكومة هو الرجل الأقوى في السلطة التنفيذية بعد الثورة.
وبحكم هذا الواقع السلطوي، فإنّ الأنظار كانت تتجه دائما إلى تدخلات السيد باجي قائد السبسي، وهي تدخلات خلفت في الأغلب جدلا إعلاميا وسياسيا واسعا.
ولم يخرج الحوار الذي أجراه رئيس الدولة التونسية مع رؤساء تحرير الصحف البحرينية بتاريخ 28 جانفي/يناير2016 (والذي نشرته صحيفة الوسط البحرينية) عن هذا الحكم.
وسأحاول في هذا المقال أن أركز على مواقف الرئيس من شركائه في الحقل السياسي التونسي بحكومته ومعارضته، كما سأحاول أن أقف عند أهم محددات تفاعل الجهات المعنية مع هذه المواقف ودلالات ذلك.
هل هي بداية تفكك "العائلة الديمقراطية"؟
يلاحظ الدارس للمشهد الإعلامي، أنّ السجال العام قد تكثّف حول نقطة جوهرية في تصريح الرئيس هي تصريحه للمرة الأولى بوجود "تطرف يساري"، بل إعلانه أنّ ذلك التطرف هو "أشرس من نظيره الإسلامي".
وقد تسبب هذا الموقف في موجة من الاستياء العام داخل الجبهة الشعبية (وهي جبهة للقوى التقدمية اليسارية والقومية) وخارجها. إننا أمام خُطاطة سياسية جديدة يتناظر فيها التطرفان الإسلامي واليساري، بعد أن كان التناظر يتم أساسا بين مكوّنات "العائلة
الديمقراطية" ومشروعها "الحداثي" من جهة أولى، وبين "الرجعية" الإسلامية ومشروعها "الظلامي" من جهة ثانية.
ومن المستبعد أن تدفع هذه الأزمة بالأطراف اليسارية إلى القيام بنقد ذاتي لمواقفها السابقة من رئيس الجمهورية أو لدورها في إعادة التوازن للمنظومة القديمة وفي رسكلة "إعادة تدوير" العديد من رموزها والتطبيع معهم. ومن المستبعد أيضا أن يكون تصريح الرئيس مؤشرا على "قطيعة" مع مرحلة كاملة من الالتقاء التكتيكي أو الاستراتيجي بين "جناحي" العائلة الديمقراطية الأساسيين، ولكننا قد نكون في محضر تغييرات نوعية يحكمها مبدأ التراكم، وهي تحوّلات قد يفرضها منطق الحكم وإكراهاته من جهة رئيس الجمهورية، كما قد يرسّخها رغبة الجبهة في تزعم المعارضة البرلمانية والاحتجاجات الشعبية المشروعة على حد سواء.
النهضة وصراع الأجنحة في "العائلة الديمقراطية"
لا شك في أنّ الكثيرين من النهضويين كانوا ينتظرون من حركتهم موقفا احتجاجيا من تصريحات رئيس الجمهورية التي تحمل الترويكا مسؤولية انتشار الظاهرة السلفية بحكم تساهلها "مع السلفيين وغيرهم"، ولا شكّ أيضا في الكثيرين يستطيعون اتهام قيادات النهضة بالانبطاح وبالسلبية في تعاملهم مع تصريحات الرئيس التونسي.
ولكنّ التفكير بمنطق سياسي "براغماتي" قد يحمل المراقب على تفهّم موقف القيادات النهضوية وإلى اعتباره الموقف الأكثر عقلانية. فالتحالف بين النهضة والنداء هو واقع سلطوي أقرب إلى حكم الضرورة منه إلى خيار استراتيجي مؤصل نظريا. فلا وجود لمراجعات فكرية ولا لنقد ذاتي قامت به العائلة الدستورية-التجمعية، وهو ما يجعل من تصريحات الباجي أمرا مفهوما وليس مجرد فائض كلام فرضته المجاملات الدبلوماسية وضرورات السياسة.
ولذلك فإنّ الأهم بالنسبة إلى العقل السياسي النهضوي هو ترسيخ التحالف الهش مع قائد السبسي الذي قد يجد نفسه بسبب تصريحه الأخير في معركة مجهولة العواقب ضد خصم النهضة الإيديولوجي اليساري.
عندما أدخل قائد السبسي إلى الجملة السياسية "الرسمية" في الجمهورية الثانية مصطلح "التطرف اليساري"، فإنه استعدى مختلف القوى اليسارية والتقدمية داخل الجبهة وخارجها، مما يجعل من فتح الجبهة النهضوية عليه في هذا السياق خيارا غير موفّق، وذلك بصرف النظر عن اختلافاتنا المشروعة في تقييم التحالف النهضوي الندائي من جهة هشاشة ما يؤسسه نظريا، ومن جهة علاقته باستحقاقات الثورة وبانتظارات القاعدة الانتخابية لكلا الحزبين.
البورقيبية أو "الخطاب الكبير "في الحقل السياسي التونسي
كان الرئيس التونسي قد انتقد النهضة أكثر من مرة منذ وصوله إلى سدّة الحكم، ولكنه ينتقد اليسار ويتهمه بالتطرف للمرة الأولى. ولعلّ الأهمية السياسية لهذا "الوصم"، هو أنه جاء في حوار قال فيه قائد السبسي عن النهضويين بأنهم " الآن" أصدقاء.
إننا أمام انكسارات جزئية في أنظمة التسمية النيو-تجمعية، ولكنها انكسارات دالة. ورغم أنّ "الصداقة" تُخرج النهضة من وضعية العدو وتبعدها عن وصم "التطرف"، فإنها لا تجعل منها جزءا معترفا به و"مطبّعا" معه "، ولا تعطيها ما لليسار من شرعية تاريخية داخل العائلة الديمقراطية. ولذلك من المرجح أن يتواصل "التعامد الوظيفي" بين النهضة والنداء بحكم مصلحتهما المشتركة.
ختاما، فإنّ ما يعطي للرئيس التونسي حق وصم
الإسلام السياسي أو اليسار بالتطرف، هو أنّ الجميع قد سلّم له واقعيا بأنه الوريث الشرعي للخطاب
الإصلاحي البورقيبي "الوسطي"، أي وريث ذلك "الخطاب الكبير" الذي تكتسب سائر "الإيديولوجيات الكبرى" المنافسة له شرعيتها من درجة الاقتراب منه أو الابتعاد عنه يمينا أو يسار، وذلك لأنها تشتغل "واقعيا" ودستوريا تحت سقف الدولة القُطرية ورهاناتها.