وقف المجلس الأعلى للقوات المسلحة وراء الدعاية التي تقول إن الجيش هو من حمى الثورة، ومما قيل، ونشر، وأذيع، أن مبارك أصدر تعليماته للمشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، لكنه رفض، وقال إن الجيش
المصري لا يقتل الشعب المصري!
كما قيل، ونشر، وأذيع، أن الجيش بقيادة طنطاوي هو من حمل مبارك على الرحيل، وطلب منه التنحي، فلم يكن أمام مبارك إلا أن يسمع ويطيع، ونشرت صحيفة "الأخبار" برئاسة تحرير "ياسر رزق" القريب من العسكر، هذه الدعاية، وساهمت في الترويج لها، بنشر حلقات مسلسلة للكاتب مصطفي بكري، أصدرها بعد ذلك في كتاب، عن دور المجلس العسكري في الثورة، وقد تبين الآن أن الكاتب كان قريبا من المجلس، لدرجة أن طنطاوي كان يأخذ رأيه في أمور الحكم، كما قال مؤخرا، وكان رفض بكري لتعيين الدكتور محمد البرادعي رئيسا للحكومة، مبررا للعدول عن هذا القرار، الذي كان من الواضح أن من بين أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة من هو متحمس له!
وقد استهدف الحديث عن دور المشير "طنطاوي" وتصديه لمبارك، إلى صناعة زعيم من الهواء، وكأنه كان بمقدوره أن يعترض، أو أن يأمر مبارك بالتنحي، وكأن مبارك كان يسمح بأصحاب الشخصيات القوية أن يكونوا من حاشيته!
لقد ذكر أحد المقربين من المجلس العسكري في فترة الثورة، وهو عبد اللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار بالتلفزيون المصري، في مذكراته، إن كل أركان دولة مبارك، وكل سدنة المعبد، من أول "طنطاوي"، وانتهاء باللواء عمر سليمان مدير المخابرات العامة، رأوا أنه لابد من إقالة حبيب العادلي وزير الداخلية لنزع فتيل الأزمة وحتى يهدأ المتظاهرون، لكنهم عند اختيار من يبلغ مبارك بهذه النصيحة المخلصة، بدوا كتلاميذ في المدرسة يخافون من أستاذ الفصل!
لقد كان المجلس العسكري من الاختيار الحر لمبارك، ولم يكن الرجل يختار أصحاب الرأي أو أصحاب الرؤية، وكانت ثقة المسؤول في نفسه مبررا للإطاحة به، كما حدث مع رئيس الحكومة كمال الجنزوري، الذي تم عزله وشكلت الوزارة من مديري مكاتب الوزراء برئاسة عاطف عبيد الشخص الرويبضة، ولم يكن غريبا أن يعلن أحد مراكز القوى وهو يوسف والي – وزير الزراعة أنهم ليسوا أكثر من "سكرتارية للرئيس"!
مبارك كان يختار قيادات دولته "على الفرازة"، ووفق معاييره للاختيار، ومن باب أولى كان يدقق في اختيار قادة الجيش، الذين كانوا يدينون له بالولاء الكامل، وكانت المحاكم العسكرية، من أدواته في التنكيل بالخصوم السياسيين، وهي التي ألغت بعد الثورة أحكاما صدرت ضد من ينتمون للتيار الإسلامي، وصلت للإعدام كما في حالة "محمد الظواهري"، ليتحول هذا الحكم على قسوته إلى البراءة بعد غياب مبارك!
بل إن القيادات العسكرية، لم ترفض تزوير الوثائق العسكرية، عندما رفع مبارك صورة رئيس أركان حرب القوات المسلحة في حرب أكتوبر الفريق سعد الدين الشاذلي، ووضع صورته هو بجانب صورة السادات، بل وأدان القضاء العسكري هذا الرجل، انتقاما لصالح مبارك الذي رفض العفو عنه، وقام بسجنه في سجن انفرادي، ولم يتململ أحد من القيادات العسكرية الذين كانوا يدافعون بعد الثورة في الجلسات الخاصة عن مبارك، لأنه قائد عسكري من قواد نصر أكتوبر، فمبارك نكل برمز هذا النصر، وأدانه بحكم عسكري، ووضعه في سجن انفرادي، وعقب خروجه منه قال "الشاذلي" إنه لولا أنه عكف على قراءة القرآن الكريم، لفقد القدرة على النطق في هذا السجن الذي لم يكن معه فيه من يكلمه!
إن مبارك لم يحكم بالجيش، ولكنه مكن وزارة الداخلية من الهيمنة على الدولة المصرية، لدرجة أنه سمح لضباط أمن الدولة بوضع هواتف المجلس العسكري تحت المراقبة، فلم يعترضوا، وإنما كان الانتقام باقتحام مقار مباحث أمن الدولة، لسحب ملفاتهم عندما قيل إن الثوار اقتحموا عددا من هذه المقار، مع أن الثوار تمت دعوتهم، فدخلوا المقار المفتوحة، بعد أن تلقوا نداء بأن يأتوا لإنقاذ الملفات التي يقوم قادة الجهاز بحرقها، فكانوا كالأطرش في الزفة!
لقد كان مبارك يعتمد تقارير أمن الدولة في الترقية والاختيار داخل الجيش، بل إنه في سنة 1988، وعندما أبلغه وزير الداخلية حينئذ زكي بدر بأن "أمن الدولة" رصد وجود تنظيم سري داخل الجيش، أعطاه الأوامر بالقبض على أعضائه بالمخالفة للتقاليد العسكرية، وأيضا دون أن يضع وزير الدفاع "في الصورة"، ولم يكن الوزير وقتها في ضعف "طنطاوي" فقد كان هو وزير الدفاع "الكاريزما" أبو غزالة!
ولم يكن مفاجأة أن يتحول الجيش إلى جزء من أدوات مبارك في السيطرة، فعندما أبلغت الشرطة قرارا في يوم جمعة الغضب، "أمر مبارك"، ولا أحد غيره، الجيش بالنزول، وذهب إلى غرفة العمليات بالقوات المسلحة لمتابعة المظاهرات ونشرت صورته هناك، بجانب وزير الدفاع ورئيس الأركان، وخلفه أعضاء المجلس العسكري، وبحسب التقاليد العسكرية، فإن هذا الحضور في هذا الموقع لا يكون إلا في متابعة الحروب، وهذا الحضور ينفي دعاية حماية الجيش للثورة، ورفضه تنفيذ أوامر مبارك وحمله بعد ذلك على التنحي!
ولماذا نلجأ للتحليل، ولدينا المعلومات التي هي نتاج اعتراف هو سيد الأدلة!
ففي محاكمة مبارك بقتل المتظاهرين، طلب القاضي "طنطاوي" ورئيس الأركان، الفريق "سامي عنان"، و"عمر سليمان" للشهادة، وقرر أن تكون شهادتهم سرية وعندما تم الإفراج عن شهادتي "طنطاوي" و"سليمان" تأكد السر وراء قرار السرية، ومعلوم أن "عنان" لم يدل مبكرا بشهادته، وغضت المحكمة الطرف عن طلبها، وإن جاءت شهادته في إعادة المحاكمة قريبة من شهادتهما بخصوص الأوامر بقتل المتظاهرين!
لم يكتف "طنطاوي" بنفي صدور تعليمات له من مبارك بإطلاق الرصاص على الثوار، ولكنه أعلن أنه لم يصدر تعليمات أيضا لغيره، سواء في الجيش أو في الشرطة!
ونفى "طنطاوي" تماما أن يكون قد طلب من مبارك التنحي معلنا أن التنحي كان قراره، كما نفى أن يكون موضوع التوريث سببا في انحيازه للثوار، نافيا موضوع التوريث من الأساس.. وقد وصف في هذه الشهادة ثورة يناير بالمؤامرة الخارجية!
وفي الوقت الذي أدلى فيه المذكور بشهادته السرية، كان العزف المنفرد في الصحف والقنوات التلفزيونية عن الجيش الذي حمى الثورة، ورفض "طنطاوي" أوامر مبارك بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، و"الطنطنة" بأوامر وزير الدفاع للمخلوع بأن يغادر القصر الرئاسي حالا استجابة للثورة!
لقد بررت الدعاية انحياز الجيش ممثلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة للثورة برفضه للتوريث، واعتبرها رمية بغير رام، لوقفه، وباعتباره أنه كان يقف عقبة كؤودا في طريق توريث الحكم، فهل يعتقد أحد أن القوم كان بإمكانهم أن يعصوا لمبارك أمرا، أو يتمردوا على قرار له، وبأي صفة؟
إذا كانت صفة المتمرد أنه أحد قيادات الجيش، فبجرة قلم بيد مبارك يصبح خارج الجيش تماما، فهو لم يأت لموقعه بالانتخاب ولا يحتاج عزله لتكتيك!
وقد شاهدنا جمال مبارك قبل سنوات، في احتفال القوات المسلحة بنصر أكتوبر وهو يحاضر في قادة الجيش عن استراتيجية الحروب والقوم يسمعون له بإنصات واهتمام!
وعندما قامت الثورة، كان "جمال" مع والده في "غرفة العمليات" الخاصة بالقوات المسلحة دون صفة، فلم يعترض العسكريون ولم يتململوا ومبارك الأب في لحظة ضعف!
ولم نسمع أن أحدا من قادة الجيش قد اعترض على التوريث، ولا نعرف من أين استقى البعض معلوماته عن هذا الاعتراض، وأين سمعوا به، إلا إذا كانوا قد سيطروا على "قرين" المشير فعلموا أنه ضد التوريث في سره؟!
فضلا عن أن هناك من رفضوا التوريث قبل الثورة واحتموا بالجيش، مطالبين إياه بالتدخل، فجرى استدعاؤهم وتحذيرهم من مغبة هذا، مثلما جرى مع "عبد الحليم قنديل"، و"عبد الخالق فاروق"!
لا بأس، فقد نفى المشير "محمد حسين طنطاوي"، أن يكون مبارك نوى توريث الحكم، تماما كما قال إن ثورة يناير مؤامرة خارجية!
وبعد هذا، ألم يأن لنا بعد أن تبين الرشد من الغي أن نتوقف عن ترديد اسطوانة: الجيش الذي حمى الثورة؟!