العدالة ركن ركين من أركان النظام استبداديا كان هذا النظامُ أو ديمقراطيا أي أن المجتمع والدولة يصطبغان بطبيعة النظام القانوني المعتمد فيهما ويتلونان بمدى تطبيقه وحدود الفصل بين السلطات فيهما. ففي الدولة المستبدة يغيب تطبيق القانون بل ويتحول إلى أداة للظلم عوض أن يكون أداة للعدل ويغدو سيفا في يد الحاكم المتجبر من أجل القمع والقتل والظلم والتعذيب.
أماّ في الدولة المدنية فالقانون سلطة يحتمي بها الضعيف والفقير من ظلم المستبد بما يضمن سلامة المجتمع وأمن الناس وصلاح أعمالهم. العدل إذن هو جوهر اكتمال الاجتماع البشري وأكثرها ضرورة للفرد والمجموعة وهو المقياس الذي به يقاس به تقدم الأمم أو تخلفها.
ثورات الربيع العربي لم تكن في الحقيقة إلا ثورات ضد ظلم الحكام وضد التمييز والاحتقار والقهر والتسلط وسيادة دولة الغاب حيث يأكل القوي الضعيف.
الاستبداد العربي الذي ثارت الجماهير من أجل إسقاطه في أكثر من عاصمة لم يكن إلا تطبيقا سياسيا لأنساق الظلم ولم تكن الشعارات المرفوعة من طرف الجماهير الغاضبة إلا مطالبة بالحقوق ومناداة بتطبيق القانون.
فلقد نجح النظام الشمولي العربي -بما هو وريث شرعي للنظام الاستعماري وامتداد طبيعي له- في تكريس استعباد الإنسان للإنسان وإلغاء شرط شروط الوجود البشري السويّ وهو شرط الحرية بما هي أعلى تطبيقات العدل والمساواة. لكن الربيع العربي نجح هو الآخر في استعادة شعار الحرية وفي الـتأكيد على أن " العدل أساس العمران وأن الظلم مؤذن بخراب العمران".
بقي أنّ المسارات الانتقالية للثورات العربية في موجتها الأولى التي انتهت بانقلاب عسكري دام في مصر وناعم في
تونس لم تنجح في استئصال الأداة الاستبدادية الأكثر ضررا للدولة والمجتمع وهي الأداة القانونية. فالانقلاب المصري إنما نجح بفضل تواطؤ النظام القضائي الفاسد في مصر وبفضل شبكة المصالح الكبيرة التي نسجها نظام مبارك وخنق بها العدالة المصرية بشكل سهّل إنجاز الانقلاب العسكري. أما في تونس فلا تزال القوى الثورية تواجه محاولات الدولة العميقة المتكررة لإحياء النظام البوليسي من رماد خاصة بعد الانتكاسات التي عرفتها الموجة الثورية الأولى.
صحيح أن المشهد التونسي لا يمكن أن يعودَ إلى الوراء وأن يماثلَ مشهد ما قبل الانفجار الكبير لكن مخاطر انقلاب الدولة العميقة على المكسب الثوري لا تزال تمثل احتمالا شديد الورود اليوم. في هذا السياق يمثل مجال العدالة وفضاء القانون بآلياته ومستوياته المختلفة أهم المداخل التي تسعى الثورة المضادة إلى اكتساحها من أجل تسهيل إعادة المشهد القديم بآليات ومساحيق جديدة.
ففي تونس تشن النقابات الأمنية المسلحة اليوم على الدولة وعلى المجتمع أعنف الحملات في سبيل تركيع المنظومة القضائية والاستفادة من حالة الفوضى التي أعقبت هروب رئيس العصابة خاصة بعد ما أصابتها ثورة الشباب التونسي في المقتل ونزعت عنها الهيبة المزيفة التي كانت تقتات بها لسنوات طويلة في ظل الحكم البوليسي لنظام الرئيس الهارب.
الجميع يعلم أن نظام بن علي كان يحكم انطلاقا من وزارة الداخلية ومن مختلف السجون وزنزانات التعذيب المنتشرة في كامل أرجاء الوطن حيث تهان كرامة الإنسان وحيث يعذب الموقوفون وحيث تصادر حرية الإنسان وكرامته.
بعد الثورة نجح عدد من الحقوقيين والمناضلين في السعي إلى تحصين المؤسسة القضائية من التأثيرات الخارجية التي كانت تحول دون أن تقوم السلطة الأهم في الدولة بدورها الوظيفي المنوط بها من أجل الثورة ومن اجل الشهداء. فالمرحوم القاضي "مختار اليحياوي" الذي مارس عليه "بوليس بن علي" كل أنواع الحصار والتضييق -بسبب رسالة وجهها إلى الطاغية مطالبا باستقلال المؤسسة القضائية- يمثل النموذج التونسي الأرقى لصمود ممثل القانون في وجه الطاغوت.
فرغم نجاح المال السياسي وشبكات العصابات المحلية والدولية في اختراق المنظومة القضائية التونسية وتوظيفها لصالح مراكز القوى المتحكمة في الدولة والمجتمع فإن نواة جديدة من النخب القانونية لا تزال صامدة من أجل منع استنساخ المنوال القمعي.
القاضي" أحمد الرحموني" رئيس "المرصد التونسي لاستقلال
القضاء" واحد من النماذج التونسية النادرة لما يمكن أن يكونه القاضي في سياق ما بعد الثورة من أجل التأسيس لعدالة حقيقية هي الركيزة الأولى والأساسية لسياق انتقالي حقيقي. فالرجل يتعرض اليوم إلى حملة شرسة من قبل "إعلام العار المحلي" بسبب مواقفه الجريئة من التعامل الوحشي مع الموقوفين في قضايا إرهابية مزيفة.
القاضي التونسي فضح بجرأة نادرة التعذيب الممنهج في السجون التونسية وفي مراكز الإيقاف بعد الثورة وهي حالات بلغت حد الوفاة أحيانا مثل حالة الشاب "وليد دنقيز" مثلا. هذا الموقف الشجاع أطلق على الرجل عنان النقابات الأمنية المسلحة و بقايا قضاة نظام الاستبداد الذين انطلقوا في حملة منظمة من أجل شيطنة الرجل وإرهابه بل وتهديده علنا على منابر إعلام بن علي.
حالة القاضي الرحموني دليل ناصع على ما يمثله رهان المؤسسة القضائية من قيمة قصوى لصالح المسار الانتقالي ولصالح دولة العدل التي يحلم بها الثوار بل إننا لا نبالغ عندما نقول إن إنقاذ هذه المؤسسة من براثن الاستبداد وبقاياه هي من أعظم المكاسب التي قد تحققها الثورات وهي كذلك مقياس أساسي من مقاييس نجاح الثورة أو فشلها... والمشهد المصري غير بعد عنّا.