كتب وحيد عبد المجيد: عندما بدأ التدخل العسكري الروسي في سوريا في 30 سبتمبر الماضي، وجدت إيران نفسها إزاء موقف معقد. لم يكن أمام طهران بديل عن هذا التدخل لإنقاذ نظام بشار الأسد الذي لم تفلح في وقف تراجعه وانكفائه قبل أن يرسل الكرملين قواته، لكنها كانت قلقة على نفوذها في سوريا، لأن هذا التدخل يدعم دور روسيا على حساب الوجود الإيراني.
وليس هناك ما يدل على أن سعي موسكو لخطب ود إيران أدى إلى تهدئة مخاوفها، لكن زيارة بوتين لطهران، ولقاءه خامنئي في 23 نوفمبر الماضي، ربما ساهما في تهدئة القلق الإيراني من التدخل الروسي، فلم يتكرر التصريح الذي كان قائد الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري قد أدلى به قبل أيام من زيارة بوتين (في 17 نوفمبر)، وحدد فيه المسافة بين السياستين الإيرانية والروسية: "إن الرفاق الذين جاؤوا من الشمال إلى سوريا للبحث عن مصالحهم قد لا يعنيهم مستقبل الأسد، بخلاف موقفنا الذي يصر على ضرورة استمراره".
ولم يختلف المأزق الإيراني في جوهره عندما قرر بوتين في 14 مارس الجاري سحب "القوات الرئيسية" في سوريا، فلا يكفي مثل هذا القرار لتهدئة مخاوف طهران التي تعرف أنه ليس بإمكانها تعويض الدور الذي اضطلعت به القوات الروسية، سواء في تمكين نظام الأسد من استعادة مناطق جديدة، أو حتى الحفاظ عليها، لذلك تظل إعادة القوات التي انسحبت وفق هذا القرار، واردة في أي وقت، وهذا ما قاله بوتين حين التقى مجموعة من الجنود الروس العائدين.
وفضلا عن ذلك، فالواضح الآن أن الانسحاب الروسي الجزئي لا يقلل سيطرة موسكو على المفاصل الأساسية لنظام الأسد، ولا يتيح بالتالي لإيران استعادة نفوذها كاملا، فقد تبين أن قرار الانسحاب الجزئي يقتصر على بعض الطائرات الروسية التي أُرسلت إلى سوريا، وعدد غير معروف من الجنود الذين بلغ عددهم نحو أربعة آلاف جندي. أما الدبابات "تي 90" والمدرعات، ومنظومتا الصواريخ المضادة للطائرات، فهي كلها باقية في سوريا، ومعها معظم القوة البحرية التي تضم مدمرات ومروحيات مضادة للغواصات، فضلا عن المروحيات الموجودة على متن حاملة الطائرات "فيتس أدميرال كولاكوف" قرب الساحل السوري، فهذه القوات الكبيرة الباقية ضرورية لحماية مركز الوجود العسكري الرئيس في قاعدتي طرطوس وحميميم.
لكن معضلة إيران مع الدور الروسي في سوريا لا تتعلق فقط بالوجود العسكري الذي سيستمر إلى أجل غير مسمى، بل بما يتيحه هذا الوجود من فرص لموسكو للتحكم في الترتيبات الداخلية، بغض النظر عن نتائج مسار جنيف الحالي، أو ما بعده من محاولات للحل السلمي.
ولعل طهران تتابع بقلق التحركات الروسية لترتيب مصالحات داخلية متنوعة في سوريا، يؤدي بعضها إلى اتفاقات مع مجموعات مسلحة صغيرة في مناطق التماس بأرياف دمشق وحلب وحمص ودرعا والقنيطرة، بينما يسفر بعضها الآخر عن تفاهمات بين عشائر وبلدات متنازعة.
وفي هذا السياق تحول مركز التنسيق الذي أُقيم في قاعدة حميميم لمراقبة الالتزام باتفاق الهدنة، إلى مركز للاتصالات والتسويات المحلية، على نحو قد يُعمِّق النفوذ الروسي في سوريا.
كما يثير قلقَ إيران حتى الآن اتجاهُ موسكو إلى دمج الكتائب التي شكّلتها في سوريا، عن طريق "الحرس الثوري"، في الجيش الرسمي. ورغم أن إيران تعتبر نظام الأسد بوجه عام إحدى أذرعها الإقليمية، فهي تكون أكثر اطمئنانا في حالة استقلال هذه الكتائب عنه كما هو حال ميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق.
وفوق هذا كله، لابد أن تثير علاقة موسكو القوية مع القوى الكردية التي أعلنت اتحادا فيدراليا في شمال سوريا، قلقا إيرانيا جديدا، لاسيما أن هذا الإعلان جاء بعد أيام من تصريح نائب وزير الخارجية الروسي بأن الفيدرالية يمكن أن تكون خيارا لسوريا.
ويعني ذلك أن قرار موسكو سحب قواتها الرئيسية لا يكفي لحل المأزق الإيراني الذي ترتب على إرسال هذه القوات، بل ربما يزيده ويحوّله إلى معضلة لطهران التي تكتشف الآن مدى عمق الوجود والنفوذ الروسيين في سوريا، سواء بوجود هذه القوات أو بدونها.