في كتاب بعنوان "المؤسسة الأكاديمية
الإسرائيلية: المعرفة، السياسة، والاقتصاد"، أصدره مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، يرصد الباحث الفلسطيني مهند مصطفى؛ دور المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية في خدمة
المشروع الصهيوني قبل نكبة فلسطين وبعدها، وتزويده بالنظريات والآليات العلمية لتثبيت هذا المشروع وهيمنته في كل المجالات.
يرى الكاتب أن الأكاديميا الإسرائيلية نجحت في أن تضع نفسها كإحدى المؤسسات الهامة على المستوى الإسرائيلي وعلى المستوى العالمي، سواء في إنتاجها المعرفي والبحثي، أو في دورها المميز في بناء الدولة، في حالة المجتمع الإسرائيلي كونه مجتمع مهاجرين وأقليات. كما يرى الكاتب أن تطور الأكاديميا الإسرائيلية تزامن مع احتياجات المشروع الصهيوني والدولة.
يظهر هذا التمازج، وفق الكاتب، بداية من الإنتاج المعرفي في كل حقوله الطبيعية، والتكنولوجية، والاجتماعية والإنسانية، وانتهاء بالتطورات الصغيرة التي قد تبدو غير مُسيّسة، مثل سياسات إقامة فروع للجامعات في مناطق مختلفة في إسرائيل. ومن أمثلة التماهي التي يذكرها الكاتب، دور الإنتاج المعرفي الإسرائيلي في قضايا التخطيط والبناء الاستيطاني.
يرى الباحث أن الأكاديميا الإسرائيلية ساهمت في صياغة الهوية الإسرائيلية الجديدة، وفي عملية بناء الأمة والدولة، وأنه كان لها دور أساسي كجزء من مؤسسات "الييشوف"
اليهودي قبل قيام الدولة، وتشابكت بشكل كبير من مؤسسات الدولة السياسية والأمنية الجديدة، كجزء من المجهود القومي لبناء الدولة وتحصين مناعتها في المجال العسكري، وكذلك تحصين مناعتها القومية على مستوى الهوية والمعرفة والذاكرة.
يتوقف الباحث مع نموذج تأسيس الجامعة العبرية كمحطة تاريخية شكلت محل سجال كبير داخل المجتمع الاستيطاني اليهودي. وقد تمحور السجال حول السؤال: هل يجب أن تكون الجامعة جزءا من المشروع الصهيوني، أم مؤسسةً أكاديميةً مستقلةً عنه؟
يشير الكتاب إلى حضور توجهين كانا يتصارعان حول الجامعة العبرية، إذ كان ينظر التوجه الأول إلى الجامعة على أنها جامعة عالمية، وعليها أن تنخرط في صيرورة المنافسة العالمية على إنتاج المعرفة، واعتبر أصحاب هذا التوجه أن الجامعة العبرية المزمع إقامتها في فلسطين عليها أن تكون جامعةً لكل الشعب اليهودي في العالم، وليس فقط لليهود في فلسطين، وعليها أن تمثل إشعاعا فكريا للثقافة اليهودية والمعرفة اليهودية في العالم. أما التوجه الثاني فكان يريد للجامعة أن تكون جزءا من مؤسسات الحركة الصهيونية، لذلك على الجامعة أن تخدم الأهداف السياسية للمجتمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين من خلال إثراء رموزه الوطنية، مثل الزراعة والاستيطان، أي أن تكون الجامعة إطارا لإغناء هذه الرموز. وقد مثلت الجامعة والطاقم الأكاديمي والإداري فيها التوجه الأول، بينما مثل التوجه الثاني الذي يريد للجامعة أن تكون أداة للمشروع السياسي المجتمع الاستيطاني اليهودي والحركة الصهيونية؛ حركة العمل الصهيونية برموزها.
يذكر الكاتب أن تمويل الجامعة العبرية كان يعتمد في عقودها الأولى على تبرعات من خارج المجتمع الاستيطاني اليهودي ومؤسساته في فلسطين. ثم حاولت مؤسسات المجتمع اليهودي الاستيطاني تعزيز حضورها في الجامعة من خلال زيادة الدعم الاقتصادي والمالي للجامعة، حتى أصبح هذا الدعم مُهيمنا بعد قيام الدولة. فتحولت الجامعة العبرية من جامعة يهودية إلى جامعة إسرائيلية، حيث بذلت السلطة جهودا حثيثة لصبغ الجامعة العبرية بطابع إسرائيل بالمفهوم الثقافي، وبذلك تم نزع الطابع الروحاني الثقافي للجامعة العبرية وإحلال الطابع الصهيوني القومي محله.
يذكر الكاتب أن ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي في عام 1950، قام بتعيين لجنة لصياغة قانون مجلس التعليم العالي، برئاسة قائد هيئة الأركان السابق للجيش الإسرائيلي "يعقوب دوري"، والذي شغل وقت التعيين؛ منصب رئيس قسم العلوم في مكتب رئيس الحكومة، وهو الأمر الذي أكد على التوجه السياسي المسبق في عملية بناء وصياغة أهداف التعليم العالي في إسرائيل، لتنسجم مع عملية بناء الدولة، وإلا فما هي العلاقة بين شخصية عسكرية وبين المؤسسة التي ستشرف على التعليم العالي؟ يتساءل الكاتب.
يورد الكتاب مثالا آخر للعلاقة بين السلطة والمؤسسة الأكاديمية، وهو اعتراف السلطة السياسية بجامعة ثامنة في مستوطنة ارييل على الرغم من كل المبررات التي ساقتها المؤسسة الأكاديمية لثنيها عن هذه الاعتراف. وبحسب الكاتب فقد مثّلت مثابرة السلطة في الاعتراف بالجامعة؛ نموذجا للسلطة القومية الأيديولوجية التي تقتحم المشهد الأكاديمي كقوة غازية. في المقابل، ثابرت المؤسسة الأكاديمية، مُمثلةً في لجنة التخطيط والموازنة ولجنة رؤساء
الجامعات، على معارضة هذا الاعتراف، وساقت لذلك كل الأسباب الموضوعية ذات الطابع الاقتصادي والأكاديمي، ولكنها لم تتطرق بتاتا للموضوع الأخلاقي والسياسي المتعلق بإقامة جامعة في مستوطنة خارج الخط الأخضر، وفي أراض محتلة حسب القانون الدولي.
يقترح الكتاب ثلاثية مفاهيمية لقراءة تحولات الأكاديميا الإسرائيلية، يحمل المركّب الأول (السلطة) وجوها عديدة، فهو يعني مدى مساهمة الأكاديميا في المجهود القومي الثقافي والسياسي، ويعني أيضا مدى تدخل السلطة السياسية في المؤسسات الأكاديمية، ويحمل المركّب الثاني (المعرفة) جوانب مختلفة أيضا، فهو يعني من جهة سياسات الإنفاق على البحث العلم والتطوير وتوجهاته، ويتعلق كذلك بسياسات التعليم العالي والأكاديمي داخل المؤسسات التعليمية، أما المركب الثالث، وهو الاقتصاد، فهو يعني من جهة توجهات الأكاديميا الإسرائيلية نحو الاندماج بالعولمة الأكاديمية، وهو يعني أيضا توجهاتها الإصلاحية الداخلية على المستوى البنيوي وعلى المستوى التعليمي جراء ضغوطات قوانين السوق.
يتطرق الكتاب إلى تأثير الاعتبارات الاقتصادية في بلورة السياسات الأكاديمية، وتمثل ذلك بسياسات الخصخصة في التعليم العالي. ويذكر أن جماهيرية التعليم العالي كانت شأنا وطنيا إسرائيليا في السبعينيات والثمانينيات وتعمقت في التسعينيات من القرن الماضي، وهي تحولات - برأي الكاتب - ما كانت لتتم من خلال سياسات أكاديمية "وطنية"، بل أُنجزت من خلال سياسات خصخصة التعليم العالي.
يقرر الكاتب أن الأكاديميا الإسرائيلية شهدت بداية تيار ناقد للرواية الصهيونية في حقول التاريخ والاجتماع والعلوم السياسية، والتي انطلقت بدراسة المسألة اليهودية والفلسطينية بأدوات بحثية مختلفة ومن خلال أطر معرفية ونظرية جديدة، لكن هذه التيارات - برأي الكاتب - لا تزال هامشية ولم تتطور لتشكل بديلا للتيار المركزي المعرفي في الجامعات الإسرائيلية.
وجود هذه التيارات الناقدة لا يعني أن الجامعات الإسرائيلية تحولت إلى معقل لتفكيك الصهيونية والرواية الرسمية الإسرائيلية، وأن الإنتاج البحثي في العلوم الإنسانية والاجتماعية بات ينطلق من منظومات فكرية راديكالية، ويتحدى التيار المركزي الصهيوني في الأكاديميا في الحقول المعرفية المختلفة. بل لا يزال التيار الصهيوني المركزي هو المهيمن في المنظومة الأكاديمية الإسرائيلية، كما يقول الكاتب.
من زاوية أخرى، يشير الكتاب إلى أن الأكاديميا الإسرائيلية ليست مغلقة على منظوماتها التقليدية، بل إنها تبقي مساحة لحضور المنظومات الأخرى بما يحقق مقولة التعددية والتسامح، من وجهة نظر الأكاديميا، دون السماح بهيمنتها، ويدعو الباحث إلى النظر إلى الأبحاث الناقدة المنجزة في العلوم الإنسانية والاجتماعية بطريقة مركبة وليس دوغمائيةً. فهنالك إنتاج بحثي ناقد من داخل المنظومة الصهيونية وخاصة في مجال التاريخ، حيث ظهرت أبحاث ناقدة للمنظومة التاريخية التقليدية في الجامعات الإسرائيلية ولكن من داخلها، وكذلك الأمر على مستوى علم الاجتماع والعلوم السياسية. كما أن الأكاديميا الإسرائيلية، وفق الباحث، استطاعت استيعاب الكثير من التوجهات الناقدة بداخلها وتحولت إلى جزء من المنظومة الأكاديمية الإسرائيلية المهيمنة.