لا أعتقد أن "عبد الفتاح
السيسي" كان في لياقته الذهنية، عندما وصف الدولة
المصرية في خطابه أمس الخميس، بأنها "أشباه دولة"، اشتقاقاً من مصطلح "أشباه الرجال"!
فالمذكور وصف الدولة بأنها "شبه الدولة"، وربما ظن أن المستمعين لخطابه تتشابه عليهم الدول، فوضع النقاط فوق الحروف، فما يعتبرونه دولة في مصر هو مجرد ملامح دولة، ولا يعني أنها دولة فعلاً، فهي "دولة بالشبه"، وكأنها دولة!
كنت أستعد، عندما ألقى السيسي خطابه، لكتابة مقال أصف فيه ما جرى أمام
نقابة الصحفيين، خلال الأيام القليلة الماضية، واكتمل بما شاهده العالم كله، قبل هذا الخطاب بيوم واحد، من استدعاء للشبيحة في حماية أجهزة الأمن، وهو أمر لا يمكن توصيفه إلا بأنه كاشف عن حالة اللادولة في المحروسة، فلا يمكن أن يطلق على الحاصل بأنه تعبير عن "أشباه دولة"، لأن هذا يعني أن هناك شكلا مكتملا، يتبدى للجاهل أنه يحمل ملامح دولة، وهذا غير صحيح، فمن حيث الشكل، فإن هذا الاستدعاء ينهي على الصورة، فلا هي دولة ولا أشباه دولة!
فالأزمة المحتدمة، بين الصحافة والسلطة، ترجع لاقتحام مقر نقابة الصحفيين المصريين في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ هذه النقابة التي احتفلت مؤخراً بمرور (75) عاماً على تأسيسها في 31 مارس 1941، وإذا كان مشهد الاقتحام على مخالفته للقانون، لا ينسف الصورة، لتظل الدولة بالشبه قائمة، إلا أن قيام وزارة الداخلية، الطرف الظاهر في الأزمة، بالاستعانة بالشبيحة الذين اعتدوا على عدد من الصحفيين، وحاصروا النقابة، ومنعوا ممثلي القوى الوطنية من الوصول إليها، ومنعوا كذلك الصحفيين غير النقابيين، كشف عن أن مصر الآن لا تعرف الدولة، فلم يبق إلا أن يستدعي الصحفيون بلطجية ويحاصرون منزل وزير الداخلية ويمنعونه من الخروج!
وإذا كان من الجائز في "الدولة الشبه"، أن يسعى وزير الداخلية لحسم الأزمة على طريقة "خناقات الشوارع"، فقد كان لافتا غياب الحكومة تماماً، وكذلك غياب السيسي نفسه، فلم يتدخل أحد لوضع حد لممارسات الوزير، التي مثلت فضيحة نُقلت للعالم بالصوت والصورة، ولو من باب الحفاظ على الشكل، وهو أمر انتقل بمصر من مرحلة "أشباه الدولة"، إلى اللادولة، لاسيما أن جماعات الحكم لم تتصرف على أنها تقف على الحياد بين أنصار السيسي وخصومه، فقد كان حضور الشبيحة في وجود رجال الأمن وفي حمايتهم، في الوقت الذي قيدوا فيه حركة الطرف الآخر بحجة تطبيق قانون التظاهر، فقد تركوا هؤلاء يتظاهرون وهم يحملون صور "زعيمهم المفدى" ويعتدون على خصومه، ويستخدمون كل الإشارات التي تدخل في باب التجريم القانوني في التعبير عن إهانتهم للطرف الآخر، لينسف هذا الحضور، استخدام الأسطوانة المشروخة عن منع المظاهرات المعارضة بحجة أنها لم تحصل على الترخيص القانوني، فهل حصل الشبيحة أنصار السيسي على هذا الترخيص؟!
اللافت أن "أهل الحكم" لم يستشعروا خطورة هذا المشهد، فقد تعمدوا الغياب، وكأنهم لم يشاهدوا وسائل الإعلام التي طيرت الجريمة للعالم، في لحظة وقوعها، فكانوا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال، وهي تظن بذلك أنها أخفت كل جسدها بإخفاء الرأس!
مثلي يعلم أن تصرفاً بخطورة قرار اقتحام نقابة الصحفيين، أو حصارها بالبلطجية، لا يمكن أن يتم بعيداً عن السيسي، إنما يظل المستهجن، ليس لأنه سمح، ولكن لأنه لم يقدم نفسه على أنه "كبير"، فيصدر تعليماته بوقف المهزلة ومحاسبة المخطئين لذر الرمال في العيون، فصمته يعني أن مصر سقطت في يد عصابة من قطاع الطرق، ليسوا ملتزمين بأبسط القواعد، ليس فقط المشكلة لمفهوم الدولة، ولكن المكونة لشخصية كبير العائلة في المجتمعات التقليدية التي لم تشكل دولة.
وإذا كان السيسي قد جاء في اليوم التالي، وأعلن أنه لا توجد دولة في مصر ولكن "شبه" أو "أشباه دولة"، فإنه لا يكون دقيقاً في وصفه للحالة، فالدولة التي تستدعي الشبيحة لحسم خلافاتها مع إحدى مكوناتها (والنقابات إحدى مكونات الدولة الحديثة) فإنها تكون قد خرجت من سياق الدول ولو "الأشباه"!
هذا الاعتراف الناقص، أنهى على الدعاية المحفوظة للسيسي وإعلامه بأن خصومه يعملون على هدم الدولة، ومن المعلوم أنه في خطاب سابق استنكر شعار "إسقاط النظام"، مشيراً إلى أنه لا يوجد نظام، ولكن توجد الدولة، ومن يدعو لإسقاط النظام إنما يعمل لإسقاط الدولة. ليصبح النظام هو الدولة، والدولة هي سيادته!
ومن هنا، فلا يلام من يدعو لهدم الدولة، لأنه لا توجد دولة باعتراف السيسي نفسه فهي "أشباه الدولة"، والاعتراف سيد الأدلة.
مبهج جدا عبد الفتاح السيسي.