كتاب عربي 21

الطائرة المصرية والتعافي من عصاب الإرهاب

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
كيف يمكن أن يسبب سقوط طائرة ما عصابا وسقوط أخرى تعافيا من العصاب، هل يتعلق الأمر بكون أحدها روسية والثانية مصرية، أم أن ذلك يشكل أحد أهم الأعراض العصابية، ففي الوقت الذي تبدو فرضية الإرهاب شبه مؤكدة في حالة إسقاط الطائرة الروسية يصر النظام المصري على التلبس بحالة من الإنكار العنيد، وفي حالة غموض أسباب سقوط الطائرة المصرية يسارع النظام المصري إلى تبني فرضية الإرهاب.

لعل أهم ما يجعل من الصعب فهم الأعراض العصابية، ضمن لغة يُفصَح من خلالها، هو عدم رؤيتنا لوجهة الخطاب بحسب التحليل النفسي، فهو غير موجه لأحد، طالما أن المريض، بشكل خاص، لا يفهمه، ويتطلب الأمر خبيرا مختصا للقيام بالتفسير، ذلك أن الهيروغليفية كانت لتبدو غير مفهومه، لكن بما أنها استُعملت لإيصال مفاهيم حول أشياء معينة للآخرين، اتضح كل شيء. لكن ما هي هذه اللغة العصابية، والتي ليست فقط لغة ميتة، أو لغة خاصة، بل لغة غامضة حتى بالنسبة إلى نفسها؟ وحتى حينما نقول لغة، فإننا نقصد شيئا قابلا للاستخدام. على عكس هذه، المفروضة. تطلّع للمهووس، إنه يرغب بإمساكها دون فكرة ثابتة لديه، أن يخرج من سيطرتها.

يقدم جاك لاكان تفسيرا يستند إلى ملاحظة لفرويد تحت عنوان "رجل الجرذان"، وهو رجل كان مهووسا بحق، رجل لا يزال بعدُ شابا، ذا تكوين أكاديمي، جاء ليلتقي فرويد بفيينا، وذلك ليخبره أنه يعاني من الاستحواذ: كانت تنتابه أحيانا هواجس تبدو حقيقية بالنسبة له عن معارفه المقربّين، وأحيانا رغبات بالإقدام على تصرفات متهورة، حيث تشكلت بنفسيته محظورات حول أمور سخيفة، فأن تكون مهووسا فذلك يعني الوقوع في الآلية، في قبضة ميكانيكية تحكم سيطرتها شيئا بشيء ودون نهاية. حيث يجب على المهووس أن يؤدي عملا، أن يقوم بواجب، إنه قَلَق خاص يقيّده: هل سيحدث ما يتوقع؟ بعد ذلك، يقوم بما يجب عليه فعله، فيجد نفسه مأخوذا بدافع معذِّب للتأكد من ذلك، لكنه لا يجرؤ، خشية أن يتملكه الجنون، لأنه يعرف بقرارة نفسه أنه قام بالمتطلب منه.. هكذا يضيع متلزما بدوائر تتسع كل مرة، حول التحقق، والاحتياط، والتبرير. وكأنه واقع بدوامة داخلية، حيث أن حالة الرضى والاطمئنان تصبحان أمرا مستحيلا بالنسبة له.

كذلك كان "رجل الجرذان"، مذهولا، ومقيّدا بدورة أعراضه المستمرة، والتي دفعت به لملاقاة فرويد بضواحي بفيينا، حيث التحق بالمناورات الكبرى كضابط احتياطي، طالبا استشارته في قصته اللاعقلانية حول سداد مبلغ بالبريد عند تلقيه طردا به نظارات، الأمر الذي يجعله يضطرب في الكلام، فالدّيْن الاستحواذي المتعلق بوالده، الذي كان عسكريا قبل أن يتم تجريده من وظيفته نتيجة تسلّطه، حيث أن سد الدّيْن، ظل مسألة مُعلّقة بظهور الصديق الذي يلزمه تخليصه من الموقف.

في حالة العصاب الجماعي التي أصابت لنظام المصري بعد سقوط الطائرة الروسية الإيرباص "إيه 321"، والتي تحطمت في 31 تشرين أول/أكتوبر 2015 في سيناء بعد إقلاعها من شرم الشيخ وتحطمها وأسفرت عن مقتل 224 شخصا كانوا على متنها معظمهم من السياح الروس الذين كانوا في طريق عودتهم إلى سان بطرسبورغ، كانت الفرضية الأساسية تشير إلى عمل "إرهابوي"، وقد أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية ـ ولاية سيناء" مسؤوليته عن سقوطها، وهو الأمر الذي أدركته جيدا الأجهزة الاستخبارية الدولية آنذاك، إلا أن السلطات المصرية وأجهزتها الأمنية والإعلامية كانت قد دخلت في "حالة إنكار"، وقد استغرقت عمليات التقبل والاعتراف عدة أشهر، حيث أقر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 24 شباط/ فبراير 2016 للمرة الأولى بأن "الإرهاب" تسبب بإسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء.

وفي حالة الطائرة المصرية المنكوبة، وهي من طراز "إيرباص "320", والتي اختفت فجر الخميس 19 مايو/أيار 2016، وعلى متنها 66 شخصا، بينهم عشرة من أفراد الطاقم، وكانت قد أقلعت من مطار شارل ديجول في العاصمة الفرنسية باريس متجهة إلى مطار القاهرة، وعلى متنها 30 مصريا و15 فرنسيا، وبريطاني وبلجيكي وعراقيان اثنان وكويتي وسعودي وسوداني وتشادي وبرتغالي وجزائري وكندي، لم ينتظر النظام المصري نتائج التحقيق، وسارع إلى تبني فرضية الإرهاب، حيث صرح وزير الطيران المصري شريف فتحي بأن احتمال وجود هجوم إرهابي وراء تحطم الطائرة أكثر ترجيحا من وجود خلل فني، وطالب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، أجهزة الدولة في بلاده إلى الاستعداد للتعامل مع مختلف "التحديات والتهديدات الإرهابية" التي تواجه مصر.

ترجيح فرضية الإرهاب من قبل النظام المصري يشير إلى تناقض اللغة العصابية، ففي حالة الطائرة الروسية تلبس النظام بالإنكار، وفي حالة الطائرة المصرية بادر بالاعتراف، على الرغم من كون فرضية الإرهاب في قضية الطائرة المصرية بدت مستبعدة من طرف جيم كومي مدير مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي، حيث قال: "ليس لدينا أي أدلة أو معلومات تؤكد فرضية العمل الإرهابي لكن مكتب التحقيقات الفدرالي سيعمل مع شركائه لإيجاد تفسير لما حدث للطائرة"، كما أعلن وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك آيرولت، أنه ليس هناك "أي مؤشر على الإطلاق حول أسباب" تحطم الطائرة المصرية.

في هذا السياق تساءلت صحيفة الغارديان البريطانية عن سبب إصرار السلطات المصرية على استبعاد العامل "الإرهابي" في تحطم الطائرة الروسية فوق سيناء، ومسارعتها حاليا في إعلان أن الأرجح في سقوط طائرتها فوق البحر الأبيض المتوسط هو "الإرهاب"، وبحسب كاتب المقال ريتشارد سبنسر من المحزن أن هناك تفسيرا واحدا لذلك لا علاقة له بالحقائق.

ففي الحالة الأولى كانت الطائرة التي سقطت فوق سيناء روسية أقلعت من مطار مصري، الأمر الذي يجعل مصر تقول إن الخطأ تتحمله الطائرة وروسيا، وفي تحطم الطائرة الأخير كان المطار الذي ربما مكّن من تهريب القنبلة إلى الطائرة فرنسيا أو غيره والطائرة مصرية، فمنذ انقلاب 2013 في مصر، وقبل ذلك خلال فترات الحكم العسكري، كانت السلطات المصرية تصر على الدوام على أن الحقائق تأتي بعد المصالح الوطنية التي تعني عندها "شرف قيادة البلاد".

خلاصة القول أن النظام المصري لا يزال في حالة عصاب، فهو يستخدم لغة مشوشة وغير مفهومة، ففي الوقت الذي يحتاج إلى الاعتراف وقول الحقيقة يتلبس بالكذب، وفي حالة الإنكار يلجأ إلى المراوغة والكذب، لكن "عصاب الإرهاب" يهيمن على سلوكه، وبعد أن كان يستعرض قدراته وإمكاناته بالحديث عن تخليص مصر من الإرهاب المتخيل، ويقدم أوراق اعتماده كمحارب عنيد ضد "الإرهاب"، بدأ بالتخلي عن رواية القضاء على الإرهاب، ويتحدث بسلاسة عن صعوبة القضاء والتخلص من "الإرهاب" العنيد، وهكذا فإن سردية "الإرهاب" تتموضع بين الحقيقة والكذب، لكنها لا تغادر حالة العصاب المزمن الذي أصاب مصر في زمن السيسي.
0
التعليقات (0)