إنه عصر يوم حار من أيام شهر رمضان، وكان النادي الواقع في ضاحية القاهرة الجديدة خاويا. جلس هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، في زاوية قائلا: "هنا أهدأ .. ممكن تكلم براحتنا".
لقد كانت مسيرة طويلة لجنينة، وهو ضابط شرطة وقاض سابق عين على رأس الجهاز المعني بمكافحة الفساد في
مصر في 2012، ويحاكم حاليا بتهمة تشويه صورة الدولة، بالمبالغة في تقدير حجم الفساد في القطاع العام.
ويقول جنينة إنه لم يرتكب أي مخالفات، وإن قضيته تستخدم لإثناء الآخرين عن التحدث دون خوف في بلد يرى أنه يخضع بشكل متزايد لقبضة أجهزة الأمن.
وقال لرويترز: "أنا حريص على نجاح أي رئيس؛ لأنه في النهاية جاء بإرادة حرة منتخبة، فنجاحه نجاح لنا جميعا. لكن بالأسلوب اللي أنا شايفه من محاولة استخدام القبضة الأمنية، وإعادة إنتاج الدولة البوليسية، فهذا لن يؤدي إلى إبداع".
مضيفا: "لما أحزاب بتغيب .. لما منظمات مجتمع مدني بتغيب.. إعلام محلي بيتم التضييق عليه .. إعلام دولي يتم ملاحقته والتضييق عليه أيضا.. غلق للمراكز الحقوقية والمعنية بالدفاع عن استقلال القضاء... يبقى هل هذا مناخ صحي للبلد تنهض فيه؟"
وبعد ثلاثة أعوام من إطاحة قائد الجيش عبد الفتاح
السيسي -الذي أصبح فيما بعد رئيسا للبلاد- بجماعة الإخوان المسلمين، تحولت حملة صارمة استهدفت في البداية نشطاء المعارضة، لتستهدف الآن شخصيات بارزة، مثل جنينة، ومقدمي برامج تلفزيونية، وموسيقيين يؤدون عروضهم بالشوارع.
وأحيل قضاة عارضوا أحكاما جماعية بالإعدام إلى التقاعد. ويواجه نقيب الصحفيين ووكيل النقابة محاكمة، وذلك للمرة الأولى في تاريخ المؤسسة الصحفية.
كما رحلت الشرطة هذا الأسبوع مذيعة لبنانية تحمل الجنسية البريطانية كانت تقدم برنامجا حواريا بدأ عقب انتفاضة 2011 التي أطاحت بحكم الرئيس السابق حسني مبارك، الذي دام 30 عاما، وأحيت الآمال في عهد جديد من الانفتاح السياسي والعدالة الاجتماعية. وعزت الشرطة قرارها إلى مخالفات مزعومة لقواعد التأشيرة.
وتطبق السلطات بشكل صارم قانونا يلزم بالحصول على موافقة وزارة الداخلية على أي تجمع عام لأكثر من عشرة أشخاص، حتى إن الشرطة فرقت يوم الاثنين مئات الطلاب الذين كانوا يحتجون على تأجيل امتحاناتهم بعد تسريب الأسئلة.
وقال معلق في تغريدة على تويتر مصحوبة بصورة للشرطة وهي تطارد تلاميذ المدارس الثانوية: "الماضي يجري وراء المستقبل".
وقال منتقدون منهم جنينة إن الحملات الصارمة التي تشنها الدولة اشتدت منذ أن تولى السيسي السلطة، وإنها لم يسبق لها مثيل منذ الخمسينات عندما أطاح الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر بالملك، وفرضوا الحكم العسكري وأسكتوا المعارضة.
ودب الخلاف بين جنينة والسلطات عندما قال للصحفيين -العام الماضي- إن الفساد كلف الدولة 600 مليار جنيه (68 مليار دولار) في أربع سنوات، وهي تقديرات يقول إنها تستند إلى تقارير رسمية.
وقالت لجنة لتقصي الحقائق شكلها السيسي إن تلك الأرقام مضللة وفق ما نشرته صحيفة الأهرام المملوكة للدولة.
ولم يصدر بعد الحكم في قضية جنينة، لكنه فقد منصبه على رأس الجهاز المركزي للمحاسبات في آذار/ مارس.
وقال جنينة: "الفساد خطير جدا... الفساد يعزز ويخلق بيئة خصبة لنمو الإرهاب".
ووصف السيسي الإسلاميين بأنهم تهديد وجودي، وجعل من الأمن أولوية بالنسبة لمصر التي يسكنها أكثر من 90 مليون نسمة في منطقة تموج بالصراعات في ليبيا وسوريا والعراق وغيرها.
وقال السيسي في مقابلة تلفزيونية في الآونة الأخيرة إن المعركة ضد الفساد مستمرة بلا توقف.
وأضاف أن "أهل الشر" -الذين لم يحددهم بالاسم- يسعون للنيل من مصر، لكنه رفض المزاعم بأن السجون المصرية مكتظة بالمعتقلين السياسيين، وقال إن 90 بالمئة من السجناء جنائيون.
وذكر السيسي أيضا أن المصريين يمكنهم التعبير عن آرائهم بحرية، لكنه حث على تسليط مزيد من الضوء على الحقوق في الأمن والتعليم والصحة.
الاقتصاد لم يتحسن
تولى السيسي الحكم بعد احتجاجات شعبية بدأت في 30 حزيران/
يونيو عام 2013، لتنتهي تجربة حكم الإخوان المسلمين.
فازت جماعة الإخوان بأول انتخابات برلمانية ورئاسية حرة تشهدها مصر بعد انتفاضة عام 2011، لكنها واجهت احتجاجات خلال عام، وسط انقطاع الكهرباء ونقص البنزين ومقاومة من مؤسسات الدولة. ويعتبر أنصارها أن السيسي اغتصب السلطة.
لكن قطاعا عريضا من الجماهير أعجب بالقائد العسكري الصارم بنظارته الداكنة، الذي وعد بإعادة الاستقرار.
حتى بعد أن قتلت قوات الأمن مئات من أنصار الإخوان في الشوارع، وألقت القبض على آلاف، نفدت من المتاجر كعكات مزينة بصور للسيسي. بعد مرور عام انتخب السيسي رئيسا بنسبة 97 في المئة من الأصوات.
لكن نجم السيسي خفت، حين خبت الآمال في حدوث نهضة اقتصادية، ووصل التضخم إلى أعلى مستوياته في سبعة أعوام، بالإضافة إلى نقص العملة الصعبة، بينما يتعرض الجنيه للضغط، ويتباطأ النمو الاقتصادي.
وقال محمد محمود، وهو خباز في حي فقير بالقاهرة: "قل للسيسي... قل للرئيس... لا يمكن أن نعيش هكذا".
ويقول إن زبائنه خفضوا إنفاقهم، وإنه يربح الآن نحو 50 جنيها يوميا، وهو مبلغ لا يكفي لأسرة من سبعة أفراد.
وانتقد اقتصاديون ما يعدّونها مشاريع عملاقة بدأها السيسي لم تتم دراستها جيدا، على رأسها مشروع توسعة قناة السويس، الذي تم الانتهاء منه على عجل تحت إشراف الجيش.
وقال السيسي في مقابلة تلفزيونية إن هناك حاجة إلى هذه المشروعات؛ بسبب قلة الاستثمارات في البنية التحتية فيما مضى.
لكن في حين أنها أظهرت نتائج سريعة، فإنها فشلت في توفير فرص عمل للسكان، الذين يتزايدون بمعدل سريع.
وقال تيموثي قلدس، الباحث بمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط: "ماذا كانت الركائز الثلاث الرئيسية التي وعد بها؟ الاستقرار والنمو الاقتصادي والأمن، وقد فشل في الثلاث".
وأضاف: "وبالتالي، فإنهم يخاطرون أكثر... إذا كان بوسعهم المضي بتوسيع قمعهم لأهداف عليا والإبقاء على الناس تحت السيطرة، فلماذا لا يفعلون؟"
ليس هناك من يكترث
يقول نشطاء إنه ليس هناك ما يدعو السيسي لإرخاء قبضته في غياب الضغط الدولي. باعت فرنسا لمصر في عهد السيسي أسلحة بمليارات الدولارات، واستمرت المساعدات العسكرية الأمريكية، بينما تحارب البلاد متشددين موالين لتنظيم الدولة الإسلامية في شبه جزيرة سيناء.
وقال قلدس: "لن يضغط أحد على مصر بهذا الصدد الآن. ليس هناك من يكترث. يعتقدون أن هذا هو أفضل ما يمكنهم تحقيقه الآن".
وأضاف: "الأمر الآخر الذي يساعدهم هو أن الشعب شهد انتفاضتين من وجهة نظرهم على أي حال، ولم يتحسن الوضع بعد الاثنتين. على النقيض، لقد تدهور".
ومع خروج البلاد من أزمة وسقوطها في أخرى، زادت الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي، وانتقلت إلى الصحافة -التي كانت يوما مداهنة- حين بدأ المصريون يسخرون علنا من خطب السيسي ذات الأفكار غير المترابطة.
في أوائل العام الحالي، ظهرت مقاطع فيديو على الإنترنت قدم فيها شبان مشاهد هزلية في الشوارع، سخروا فيها من حملة مصر الأمنية، وتهكموا على سياستها الخارجية، وانتقدوا رئيسها بشدة.
وبحلول أوائل أيار/ مايو، كان أربعة من أفراد فرقة أطفال الشوارع وراء القضبان، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، ومناهضة المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الدولة. وخرج خامس بكفالة.
وقال أقارب وأصدقاء إنهم مصدومون؛ لأن مجموعة من مقاطع الفيديو أعدتها مجموعة مغمورة يمكن أن تؤدي لتوجيه هذه الاتهامات الخطيرة.
وألقي القبض على أكثر من 200 شخص في نيسان/ أبريل فيما يتصل باحتجاجات على خطة الحكومة نقل السيادة على جزيرتين في البحر الأحمر إلى السعودية، وهو موضوع تناولته فرقة أطفال الشوارع في مقاطعها. وصدرت أحكام بالسجن أو الغرامة على أعداد كبيرة، لكن تمت تبرئة معظمهم منذ ذلك الحين.
وقال محمد أنور السادات، رئيس لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب: "هناك شباب لأول مرة يشارك في مظاهرة ومظاهرة سلمية. لم يفعل شيئا. هؤلاء لا بد أن يفرج عنهم. وألا تتم معاملتهم في السجون معاملة البلطجية واللصوص".
وأضاف: "لك أن تتخيل لما يكون شاب في كلية طب، ولا أيا كانت الكلية، ويدخل ويحبس سنة ولا اثنتين.. يطلع إيه؟ يطلع مواطن صالح، ولّا إنسان حاقد وناقم على الدنيا ولا ولاء ولا انتماء لهذا البلد؟"