عقدت
تركيا قبل أيام اتفاق مصالحة مع المؤسسة
الإسرائيلية، وذلك إثر الهجوم الذي كان على أسطول الحرية قبل سنوات، وأسفر عن استشهاد عدة أشخاص وإصابة العشرات وعلى أثره تم تخفيض مستوى العلاقات بين البلدين، وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي. وكان مطلب تركيا منذ ذلك الحين، الاعتذار عن الحادث، والتعويض للشهداء ورفع الحصار عن
غزة.
تنوعت الردود حول الموقف التركي بين ناقد ومُهلل، ولذلك أظن أن هناك حاجة لقراءة موضوعية للموقف التركي، وقراءته في سياقاته المختلفة والحكم عليه. وفي هذا السياق أظن أنه لا يمكن الحديث عن فوز بالضربة القاضية للطرفين، هناك نقاط ومكاسب وتنازلات وحسابات من كلا الطرفين. ولكن كفة النقاط لحد معين ترجح لكفة الأتراك، إذا ما قسنا الأمر ليس فقط في سياق القضية
الفلسطينية.. ففي سياق رفع الحصار بالفعل كانت هناك خيبة أمل لحد معين، ولكن الحديث هنا عن الاتفاق بالمجمل.
ولكن لكي نقيّم الموقف التركي والاتفاقية التي تمت يجب أن تكون المنطلقات واحدة، وعليه أحببت إيضاح النقاط التالية:
1. الواقعية السياسية والمبدئية: أحد مكونات اتخاذ القرار في أي شيء هي المبادئ التي يحملها الإنسان أو الدول، والأمر الثاني هو الواقع الموجود.. في سياق الاتفاق، الواقع السياسي التركي ليس بأحسن أحواله، وأظن أن تركيا مبدئياً مساندة للقضية الفلسطينية ولنضال الفلسطينيين، وكان ذلك من أساطيل الحرية، واستقبال قيادات حماس والوقوف ضد إسرائيل في وقت الحرب، وغير ذلك، ولكن الواقع السياسي الدولي والإقليمي ليس بصالحها أبداً، والدليل على ذلك هو التفجيرات التي هزت تركيا، ناهيك عن العلاقات المتوترة مع دول الجوار وأوروبا وروسيا.
2. الأولويات: هل تركيا أولوياتها في هذه المرحلة فك حصار الفلسطينيين، أم التخفيف من الضغط عليها ومن العلاقات المتأزمة مع عدة دول في المنطقة؟.. هذا سؤال يمكن أن يجيب عليه الأتراك، وأظن باتفاقهم أجابوا عليه لصالح الأولوية التركية.. (وهذا ليس بالضرورة معيباً للأتراك).
3. الدول الوطنية ومفهوم الأمة: أظن أنه ما زال يسيطر على الدول الحديثة مفهوم الدولة الوطنية، وبالتالي الأهم في آلية اتخاذ القرار هو ما ينفع الدولة الوطنية. وتركيا بقيادة العدالة والتنمية حاولت زيادة بُعد الأمة، ولكنها لم تستطع أو لم تُرد تطبيقه بشكل كامل لأسباب عدة. وبالمناسبة، وفي سياق النقد العربي الذاتي، نحن نعيب على الدول العربية علاقتها مع إسرائيل ولا نعيب بالحجم ذاته على تركيا، ربما لافتقاد البعض مفهوم الأمة، ويمكن أن يكون ذلك لأن تركيا العدالة والتنمية جاءت بعد بناء العلاقات مع إسرائيل ومن الصعب قطعها واتخاذ موقف دراماتيكي. كما أن ذلك يمكن أن يعود لكون تركيا العدالة والتنمية تؤمن بالفعل بالسلام وفق حل الدولتين وتتعامل معه، وبالتالي يجب أن يكون موقفنا منصفاً ضد أو مع تركيا في هذا السياق، وليس عاطفياً.
4. القضية الفلسطينية كمنطلق: وهنا أتحدث عن نظرتنا نحن لأولويات الدولة التركية. هل نقيّم الاتفاق على أساس ما يهم الفلسطينيين العرب أم ما يهم الأتراك؟ وهذا سؤال مهم جدا، ويمكن أن يجرنا لنقاشات عميقة. فإذا كان منطلقنا للتقييم هو ما يتعلق ويهم الفلسطينيين فقط، فلماذا لم تناصر جُل الشعوب بشار الأسد ونصر الله وهم قد وقفوا لحد معيّن مع الفلسطينيين.. لأن هناك أولويات وسياقات حسابات أخرى، ولأن الأمر ليس بهذه البساطة وفيه من التعقيد ما فيه، وفيه من صراع الأولويات ما فيه، فلا يمكن التفكير بهذه البساطة.
كما أن التفكير بأن القرار يجب أخذه بما يهم الأتراك فقط سيء، كذلك أخذه بما يهم الفلسطينيين فقط، هو كذلك سيء.
5. تخفيف ظروف السجن: الادعاء بأن الاتفاق يخفف ظروف السجن للفلسطينيين ولا يلبّي حاجات الفلسطينيين بشكل كامل هو ادعاء صحيح، نعم، لا يلبيها كاملة.. ولكن من المهم أخذ الاتفاق كحزمة واحدة مع الظروف الإقليمية والدولية، فيمكن أن يكون هذا أفضل ما وصل إليه الأتراك وفق موازناتهم المختلفة.. والتخفيف عن الفلسطينيين بحد ذاته أمر مهم جداً، كما أنه يدعم نضالهم. فبدون وضع معيشي أفضل للناس لن تكون هناك قدرة على الصمود، كما أن الوضع الإنساني بحد ذاته مهم، ويجب ألا ننتقص منه، ولا ننسى أن الأتراك شاركوا قيادات حماس الاتفاق من خلال زيارة مشعل. وكما أن السجين يسعى لحريته الكاملة، كذلك هو لديه سلم مطالب وأهداف، منها تحسين ظروف اعتقاله.. ولكن أتفق بالمقابل أن هذا ليس أفضل شيء يريده هذا السجين..
6. تقييم موقف الأتراك وفق مطالبهم ومطالب الإسرائيليين: الأتراك أرادوا الاعتذار والتعويض وفك الحصار، وقد حصلوا على اثنتين، والثالثة بشكل جزئي (بالمناسبة الاعتذار بالدبلوماسية الدولية يكون بكلمات منتقاة ولا يكون مباشراً، كما أن التعويض إقرار بحصول جريمة إسرائيلية)، والإسرائيليون لم يريدوا كل ذلك.. وكانوا يريدوا طرد حماس، وقسم منهم أرادوا الحصول على جنود مأسورين.
بالمحصلة، وبالأخذ بعين الاعتبار الظروف الإقليمية والواقعية السياسية وبأخذ المتغيرات والأولويات.. يمكن أن نقول صحيح أنه لم يكن فكا كاملا للحصار (التسهيلات والمساعدات ممكن أن تساهم جداً في تيسير حياة الفلسطينيين في القطاع)، وهذا يقلل جداً من الاتفاق، ولكنه أفضل من لا شيء وبمعايير النقاط (وتقييم الاتفاق في الظروف الراهنة التي تعيشها تركيا والمنطقة) يمكن أن نقول إن هناك 55 إلى 60 في المئة نجاحا للأتراك مقابل 40 إلى 45 في المئة للإسرائيليين، ولو كان الاتفاق في ظروف أخرى يمكن أن يحوز على علامة أخرى.
الامتحان الحقيقي هو بالتطبيق وما يتبع الاتفاق من عمل على الأرض، ولا أظن أن شكل العلاقة سيكون وديا بين البلدين، وإنما حفظ المصالح لكل دولة، والتعامل مع الآخر يكون وفق هذه المصالح..
للتذكير، لا يمكن تشبيه المواقف التركية والخطوات التركية تجاه القضية الفلسطينية والعربية بالمواقف العربية المتخاذلة، ولكن بالمقابل يجب عدم رفع سقف التوقعات من تركيا وقيادتها، أو الظن بأنها المخلّص والدولة الإسلامية المثالية، بل دولة لها سلبياتها وإيجابياتها وحساباتها الذاتية والدولية.. ويجب التفكير بموضوعية تجاه تركيا ومواقفها.. ووجوب نقدها كما يجب ذكر الإيجابيات، وكل ذلك في سياقاته المناسبة.