أحبط الشعب التركي انقلابا كاد أن يطيح بالحريات المدنية التي تنعم بها سنين طوال في ظل حكم العدالة والتنمية، ولكن ذلك وضع تحديات كبيرة على كاهل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته لمواجهة التنظيم الموازي مع الاستمرار في الحفاظ على الحريات المدنية، والأخطر من كل هذا مواجهة مؤامرات قادمة لتركيع قيادة العدالة والتنمية التي اختطت لنفسها سياسة قائمة على التحالف والتخالف مع الغرب في آن.
فالاعتقاد أن فتح الله غولن زعيم حركة (خدمة) هو الذي خطط للانقلاب وحده بالتعاون مع حفنة من قادة الجيش وضباطه الذين عرفوا بانقلاباتهم على المسار الديمقراطي في البلاد، هو تبسيط لما جرى. فطبيعة علاقات جنرالات الجيش التركي بالاستخبارات الأميركية وردود الدول الغربية التي تأخرت في إدانة الانقلاب تدفع للاعتقاد بأن مخطط الانقلاب شاركت فيه واشنطن واستخدمت فيه غولن وجنرالات الجيش.
كما أن ردود حفنة أخرى من بعض الدول العربية (العقل المدبر للثورات المضادة) كانت تشي بأن مخطط الانقلاب اشتركت فيه هذه الدول تمويلا وتشجيعا للإطاحة بآخر معقل مهم داعم للثورات العربية التي تشكل هاجسا وكابوسا لهذه الأنظمة.
وإن لم ينجح الانقلاب في إزاحة أردوغان، فإن عوامل معاودة الكرة وإن بوسائل أخرى لا تزال قائمة عند الغرب. وعلى رأس هذه العوامل، استمرار إصرار الزعيم التركي على الاحتفاظ بمسافة مهمة من واشنطن والغرب في قضايا الأمة وموقفه من سوريا حتى مع عضويته في حلف الأطلسي ومحافظته على العلاقة مع إسرائيل.
وقد انتهجت واشنطن سياسة إطالة أمد الأزمة السورية والسكوت على تغول إيران في المنطقة سياسيا وطائفيا بهدف توريط القوى الفاعلة (إيران – تركيا – السعودية) والاستفادة من التنظيمات التي تسعى لمنافسة أو تفكيك الدول لصالح أجندات لديها (حزب العمال الكردستاني وإلى حد ما تنظيم الدولة).
وتهدف واشنطن -في ظل انشغالها عن المنطقة بالمواجهة مع الصين- لاستمرار تواجدها القوي في المنطقة عبر تكريس تفوق إسرائيل في الإقليم واستمرار إضعاف الدول العربية (بعد إخراج سوريا والعراق ومصر من المواجهة وإشغال السعودية بمواجهة إيران) ودفعها لتطبيع علاقاتها مع تل أبيب حتى بدون سلام حقيقي.
كما تسعى الإدارة الأميركية إلى إلحاق الدولة التركية بحالة الضعف في المنطقة وكسر إرادة التحدي التي يتسم بها الرئيس التركي. كما ستستمر في دعم الأكراد على حدود تركيا ورفض إقامة المنطقة العازلة هناك لإضعاف الدور التركي في سوريا وإيجاد حالة لا غالب ولا مغلوب فيها ما يؤدي إلى إضعاف جميع الأطراف وتعزيز حاجتها لواشنطن، ويصب في هذا الاتجاه أيضا تسليم إيران مناطق نفوذ في المنطقة العربية.
وفي سبيل التصدي لهذه المؤامرة التي تبدو مؤكدة ضد تركيا، فسيواجه أردوغان تحديات كبيرة داخليا وخارجيا. فعلى الصعيد الداخلي سيسعى إلى:
1- تحييد وإضعاف منظمة خدمة وأنصار غولن الذين يقدرون بمئات الآلاف ويتميزون بالتنظيم والانباث في مختلف طبقات المجتمع وهيئات الدولة. وقد بدأت هذه الحملة باعتقال وتوقيف عشرات الآلاف واتخاذ إجراءات رادعة بحقهم، أملا في إحباط أية مخططات تخريبية مستقبلية للمنظمة.
2- إعادة هيكلة المنظمات المصادرة من غولن بما يضمن العمل على إعادة توجيهها من جديد ضمن رؤية الدولة التركية الجديدة وأهدافها.
3- إعادة ترتيب وتشكيل مؤسسات الدولة وأهمها الجيش والأمن والمؤسسات والوزارات والعملية التعليمية بما يضبط أدائها لصالح الولاء للرئاسة والحكومة.
وستستغرق هذه العملية أشهرا عدة، وستستهلك من طاقات الحكومة التركية وستشغلها مؤقتا عن الاستمرار في نفس كفاءة دورها الخارجي، ولكنها على المدى القريب ستعيد إطلاق مكامن القوة لدى تركيا وستمكنها من استعادة دورها كلاعب إقليمي قوي.
وعلى الصعيد الخارجي:
1- سيصر أردوغان على تسليم غولن، وقد يدخله ذلك في خلافات مع الإدارة الأميركية، وقد يلجأ للتهديد بتقليص حرية الأميركيين في قاعدة إنجيرلك، بل وحتى تقليص تعاون الجيش التركي معها إلا في إطار الحد الأدنى ضمن حلف الناتو لمواجهة تنظيم داعش في سوريا والعراق.
2- كما قد تتكشف خيوط مؤامرة إقليمية للإطاحة بالرئيس التركي، الأمر الذي سيجعله أكثر شراسة في التعامل مع الإقليم مع إبقاء خيوط العلاقة مع الغرب. وسيتمسك بمواقفه تجاه سوريا وإن بوتيرة أقل من السابق، وسيستمر بالتمسك بموقفه المتشدد من انقلابيي مصر.
3- سيشن الغرب حملة شرسة على الحكومة التركية خصوصا إذا تم اعتماد عقوبة الإعدام لزعماء الانقلاب الفاشل. وسيكون سلاح المعركة الحريات وحقوق الإنسان، ولكن أردوغان سيتسلح بالمواقف الشعبية وتضامن المعارضة معه، وسيستمر في علاقاته مع الغرب وإدارة الأزمات معها.
وقد يدفع ذلك بأردوغان لتحسين علاقاته مع إيران وتقديم تنازلات لها في إطار الشراكة في الإقليم، وسيعزز علاقاته مع روسيا لمواجهة التشدد الأميركي معه ومحاولة تحييد موقفها من طموحات الأكراد، كما سيفعل علاقاته مع السعودية.
وتبدو المرحلة القادمة صعبة ومعقدة على الحكومة التركية التي يبدو أن تحالفها مع الغرب لن يقدمها في الإقليم بسبب التوجهات الإسلامية للعدالة والتنمية، وطموحات أردوغان العالية في المنطقة والتي لا تلقى قبولا لدى الغرب، ولا حتى عند بعض الجيران العرب.
ويصح القول إن مواجهة سياسية صعبة ستدور رحاها في المنطقة بين الغرب وتركيا بعد فشل المغامرة العسكرية لإسقاط أردوغان.
ومن يعرف شخص أردوغان فإنه يدرك أنه لن يستسلم للضغوط القادمة وسيواجهها بكل صلابة بعد أن كسب المرحلة الأولى من المواجهة.