لا أعرف ما إذا كانت هناك دول غير
مصر، تحرص على أن تدون ديانة مواطنيها في أوراقهم الرسمية الخاصة؟ لكن ما أعرفه جيداً، أن إثارة هذا الموضوع الآن، لا يستهدف إلغاء التمييز الديني، كما يقال، وإنما المقصود به، الخطوة التالية لحكم العسكر في مصر، التي تأتي متواكبة مع الحديث عن قانون جديد للجنسية، يجعلها سلعة قابلة للبيع، وهي الخطوة التي تأتي متزامنة مع الدعوة لعودة اليهود المصريين إلى القاهرة، وهم الذين غادروها بعد هزيمة 1967، وقيل إن السلطة هي التي دفعتهم لذلك لأنها لم تكن واثقة في ولائهم لأم الدنيا!
قبل أيام ناقشت إحدى لجان برلمان الانقلاب مشروع قانون ينص على إلغاء "خانة
الديانة"، ولأن المشروع تقدمت به نائبة، فإن هناك من طلبوا عرضه على الحكومة للوقوف على وجهة نظرها، ويبدو أن اللجنة أرادت أن تجس به النبض عن طريق من قدمته، فإن وجدت موافقة عليه يتم تمريره، وإن أثار ضجة ضده تعاملت الحكومة على أنها بريئة منه، ولا شأن لها به، لا سيما وأنه يتطرق لموضوع حساس، وقد أثير سابقاً عن طريق المنظمات الحقوقية الممولة من الخارج. وباعتبار أن وجود خانة للديانة في شهادة الميلاد، وفي بطاقة الهوية الشخصية، يمثل تمييزاً دينياً، ولم نكن نعلم ما تخبئه لنا الأيام، عندما تصبح الجنسية المصرية سلعة لمن يشتري، ويصبح هناك اتجاه لحضور إسرائيلي إلى مصر يريد تملك الأراضي المصرية، وعندما تولى حكم مصر حاكم من سلالة "عواد"، والذي باع الجد أرضه، فقد جاء "الحفيد" ليبيع أرض الغير، وكانت البداية بـ"تيران" و"صنافير". فمصر ليست ضيعة ورثها "عواد" الحفيد عن "عواد" الجد!
"خانة الديانة"، إلغاء وتثبيتاً، من القضايا التي يبتعد المسلمون في مصر عن مجرد مناقشتها، للاعتقاد السائد بأنها تحقق لهم فعلاً تمييزاً، وبإلغائها سيقع عليهم هم الضرر، ويستفيد من ذلك "المصري المسيحي"، ذلك بأن الطلب بالإلغاء يأتي دائماً من جانبهم، وللتأكيد على أن هذه الخانة تمثل علامة على الاضطهاد الذي يتعرضون له في مصر، وهو يؤكده من يوالونهم من الحقوقيين، الذين يتم تمويلهم من الغرب، في تجارة "حقوق الإنسان" التي كانت رائجة في مصر قبل ثورة يناير!
رفض فكرة النقاش المبدئي حول كثير من القضايا التي تمس العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، تدفع للاعتقاد بما يتم ترويجه مسيحياً وحقوقياً، تماماً مثل فكرة قانون العبادة الموحد، الذي تعرضنا لها في مقال سابق. فالمستقر في الوجدان أن هذا سيمنح المسيحيين الحق في بناء الكنائس، وفق قواعد النسبة والتناسب، وهذا هو المفهوم من القانون الموحد، فيتم رفضه بدون نقاش، لأن هناك اعتقادا بأن الوضع الحالي يحقق تمييزا لصالح المسلمين. وهذا ليس صحيحاً!
فعملية البناء والترميم هى إحدى البنود، وفي المقابل فإنه ينبغي في الدولة المدنية، إما أن تخضع دور العبادة كلها لولاية الدولة، أو أن تخرج جميعها عن هذه الولاية، والوضع الحالي حقق تمييزا للكنائس بأن جعلها دولة فوق الدولة، عندما تخضع المساجد لإشراف وزارة الأوقاف فتفرض شروطها في مدة الخُطبة، وموضوعها، وهو ما تعفى منه دور العبادة للمسيحيين!
وحتى في ما هو خاص بالبناء، فإن المقارنة لن تكون بين الكنائس والمساجد، ولكن بين الكنائس والأديرة من جهة، والمساجد والأضرحة من جهة أخرى، فمساحة دير واحد، أكبر من مساحة جميع مساجد القاهرة الكبرى على اتساعها. وعندما تشرف الحكومة من خلال وزارة الأوقاف على الأديرة، فإن إنتاجها يؤول لخزانة الدولة، ولن يكون الأمر كما هو الحال عليه الآن، عندما تذهب هذه الأموال للكنيسة، بل إن أموال الكنيسة ستخضع لرقابة أجهزة الدولة، وهو ما طالب به القس الراحل "إبراهيم عبد السيد" في كتابه "أموال الكنيسة"، والتي ستصبح كالأزهر مؤسسة من مؤسسات الدولة!
وإذا كان دستور الانقلاب تحدث عن قانون تنظيم بناء الكنائس، وهو ما سيتم إقراره هذه الأيام، فأعتقد أن من يقفون وراء القانون أسعدتهم هذه النظرة الحساسة من قبل بعض المسلمين المصريين، من فكرة قانون دور العبادة الموحد، وربما اعتبروا أن الانقلاب انتصر لهم بقانون للكنائس، لا يساوي بينها وبين المساجد!
وفي المقابل فإنه بقانون تنظيم بناء الكنائس، وقع التمييز ضد الكنائس الصغيرة مثل الكاثوليكية والإنجيلية لصالح الكنيسة الأرثوذكسية، وهذا هو المسكوت عنه، وقد أراد البابا شنودة أن يفوز بقانون الأحوال الشخصية للمسيحية بحسب اعتقاد كنيسته، مقابل سكوته على تفجير النظام لكنيسة القديسين وبسيف الابتزاز، وهو قانون تأخر إقراره بسبب الخلاف بين الكنائس الثلاث حول موجبات الطلاق، وكاد أن يمر بسيف الابتزاز لولا أن الثورة قامت وأزاحت نظام مبارك. ومما يذكر، أن ممثل الكنيسة الإنجيلية القس "إكرام لمعي" كان قد انسحب من لجنة مناقشة القانون، لأنه رأى الرياح تأتي بما تشتهي سفن البابا!
إلغاء "خانة الديانة"، هو مطلب للبعض يريد به إثبات أن هناك تمييزاً ضد المسيحيين، فيمنع وجودها في الأوراق الرسمية، من تولي المسيحي لمناصب بعينها في الدولة، كالنيابة والسلك الدبلوماسي، ومن الالتحاق بجهات بعينها كالشرطة والجيش، وفي مواجهة هؤلاء يقف من لا يريدون أن يبحثوا عن حقيقة هذا، فهل هناك بالفعل تمييز ضد المسيحيين هنا؟!
الشاهد، أننا شاهدنا اثنين من المسيحيين يرأسون مجلس الدولة في فترات متقاربة، وكانا الأقرب في أحكامهما من رغبات السلطة، كما شاهدنا مسيحياً يرأس محكمة الاستئناف ويعمل على خدمة السلطة أيضا، وفي ميدان التحرير رأينا ضابطاً مسيحياً ضمن قوات الجيش المرابطة فيه، وفي موقعة الجمل كان هو الضابط الوحيد الذي وقف موقفاً شجاعاً.
فالحديث عن منع بعض المسيحيين من وظائف بعينها يبدو لي أنه ليس صحيحاً، وإن كان يتم وفق نظام "الكوتة"، فالمعنى أن الباب ليس مغلق تماماً، وعلى المسيحيين أن يبحثوا عن المستفيد من هذا النظام، فالكوتة تذهب لأبناء القساوسة، وإن فاض شيء فلمن يختاره القساوسة أيضا، وينبغي أن يناضلوا من أجل إلغاء هذا التمييز، والذي لن يكون بإلغاء "خانة الديانة"، فإلغاؤها لن يحقق المراد، فمعرفة الديانة ستكون عن طريق الاسم، وأيضاً عن طريق التحريات الأمنية، وقد أمكنني معرفة ديانة مقدمة مشروع قانون إلغاء الديانة دون أن أطلع على خانة "الديانة" و"النوع" في بطاقة الرقم القومي الخاصة بها!
الذين يتخوفون من الدعوة لإلغاء "خانة الديانة" في الأوراق الرسمية من المسلمين، ينطلقون من فكرة الخوف من أن يستغل هذا بعض الشباب المسيحي في الزواج من مسلمات، وكأننا نعيش في بلد غير مصر، لا يمكن للإنسان أن يقف على "أصل" و"فصل" من يتقدم للزواج من ابنته. وهؤلاء بهذه النظرة التآمرية يغلقون الباب أمام مناقشة هذا المطلب، فيقدمون خدمة لمن يستغلون هواجسهم في المزيد من التأكيد على وقوع التمييز ببقاء "خانة الديانة"، مع أن فتح الباب للمناقشة سيؤكد أن هؤلاء هم الأحرص على هذا التمييز، ويحرصون عليه بالإصرار على التسمية بأسماء ليست محايدة، وإنما تؤكد على الديانة ولو تم محو "الخانة"، كما يحرصون على "دق الصليب" على أيديهم، فهل يوافقون على مد الحبل على الغارب بحظر "دق الصليب"؟!
ترك الحبل على الجرار بالمناقشة الحرة مهم لكشف هؤلاء الذين يستفيدون من الادعاء من وقوع التمييز الديني بخانة الديانة، فهي تعطل اعتناق بعض المسيحيين للإسلام، لأن تغيير ديانتهم في الأوراق الرسمية، يحتاج لإجراءات ليست محكومة بقانون، ولكن تتحكم فيها الحالة الأمنية، فلا تتم إلا بعد جلستين أو أكثر لمن يرغب في دخول الإسلام، في مديرية الأمن، وفي حضور قساوسة يناقشونه ويعملون على إثنائه عن التحول. وبالجلسة الأولى يكون أمر "طالب الدخول" قد انكشف ويمكن خطفه من قبل أسرته وحبسه في أحد الأديرة للحيلولة دون ذلك، وبمجرد أن يتم تغيير الأوراق الرسمية فإنهم يكونون قد فقدوا الأمل فيه، فماذا لو كان الأمر ليس بحاجة إلى تغيير خانة الديانة؟!.. هل يوافقون الآن على إلغائها!
في تقديري أن أي مدرك لتفاصيل الموضوع لن يكون جاداً في طلبه، ولكنه يستغل رفض الآخرين لفتح الموضوع في التمدد في فراغ العبث، وإن كنت أعتقد أن الدفع بمشروع القانون لبرلمان الانقلاب بحجة إلغاء التمييز لا يأتي تلبية للمطالب الطائفية في مصر، وإن تعلق بأهدابها، ولكنها فرع من المؤامرة على الأمن القومي المصري، التي يقوم بها الانقلاب، من خلال سهره على حماية المصالح الإسرائيلية في المنطقة!
لا بأس، فليتم إلغاء خانة الديانة في المحررات الرسمية، ويتم تجريم "دق الصليب" على الأيدي لأنه يكشف الهوية الدينية لمن يحمله، ولتغير مقدمة مشروع القانون اسمها من "نادية هنري"، إلى "نادية عبد الفتاح السيسي"، لأن مجرد وجود "هنري" في اسمها عرفت أنها مسيحية، وهي معرفة تتنافى مع فكرة إلغاء التمييز الديني!
وبالمرة غيري كامل الاسم، فـ "نادية" "دقة قديمة" واسم تراثي، سمي نفسك "لميس"... "جابر"!