"خليوني مني ليه" والترجمة الفصحى الأقرب إلى المعنى "دعوني أصفي حسابي معه"، والكلام لعبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي، في تجمع خطابي من تنظيم القطاع الشبابي لحزبه قبل أسابيع، وكان المبني للمجهول في الجملة ملك البلاد.
بعدها بأيام رأينا كيف ارتمى عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، يقبل يدي الملك في احتفالات عيد العرش في سابقة لم يعهدها الجمهور المغربي منه. لم تكن زوبعة "الغضبة الملكية" التي تم الترويج لها، وما تلاها من شد وجذب إعلامي بعد تسريب الخبر للصحافة، إلا مقدمة للإعلان عن ميلاد "خادم جديد" للدولة، لا يخرج عن طوعها ولا عن الحدود التي ترسمها للفعل السياسي العام.
مرحبا بكم في "دولة خدام الدولة".
لقد اعتمد المخزن المغربي على مدار تاريخه على العطايا والمنح والامتيازات سبيلا ناعما لاستقطاب النخب وتكريس مبدأ الولاء لدى ممثلي سلطتها في الأقاليم والجهات وبعدها الطبقة السياسية في مظهر المخزن العصري. وإذا كان القيادي الاشتراكي محمد اليازغي قد أعلن منتصف تسعينيات القرن الماضي، في ظل نشوة ما سمي بالتناوب التوافقي الذي أوصل المعارضة الاشتراكية إلى تدبير الشأن العام، أن "المخزن قد مات"، فإن الوقائع على الأرض تبين أن المخزن باق لا يموت سواء على أرض الواقع أو في المتخيل الجمعي وذهنية النخب وعامة الناس.
ولم يكن غريبا أبدا أن تكشف التسريبات الصحفية عن استفادة رجال سياسة وممثلي السلطة المركزية، نظير ما قدموه ولا يزالون من خدمات، من أراض تابعة للأملاك المخزنية بأثمنة رمزية حددها مرسوم وزاري كان بالإمكان، حسب كثيرين، أن يتم تغييره وتحيينه من طرف رئاسة الوزراء بما يضمن حق "الدولة" في استخلاص قيمة سوقية مناسبة للأراضي "الممنوحة" لخدامها. لكن الواضح أن المقصود لم يكن أبدا محاربة مظهر فاحش لمظاهر الريع المستشري في البلد بقدر ما كان الهدف "فرقعة إعلامية" تصيب شخصا بعينه تجمعه "خصومة" مع ممثلي حزب العدالة والتنمية بعمودية العاصمة الرباط، التي يقودون دفتها، في أفق انتخابات السابع من أكتوبر التشريعية.
"دولة خدام الدولة" لا يمكن لها التساهل مع المساس بالمنتسبين إليها إلا فيما تراه هي "تأديبا" عن الخروج عليها. لأجل ذلك، خرج وزيرا المالية والداخلية، وهما من "خدام الدولة" الأوفياء المتدرجين في مختلف مناصب المسؤولية بها، ببيان مشترك أعلن ببساطة "قانونية" عملية التفويت، والكلام هنا عن تفويت لا بيع، قبل توجيه نيران مدفعيتهما في اتجاه محاولات حزبية لاستغلال القضية انتخابيا، والمقصود حزب العدالة والتنمية الذي لا يتزعمه غير رئيسهما في الحكومة عبد الإله بنكيران الذي يتبع له، بالمناسبة أيضا، كل الولاة والعمال (المحافظين) ووالي الرباط واحد منهم. لم يجد رئيس الوزراء والولاة والعمال أمام "المفاجأة" غير تكميم أفواه المنتسبين لحزبه وكفهم على التعليق على الحدث وتداعياته.
وبالعودة إلى تجربة دخول حزب العدالة والتنمية للحكومة رئيسا لها، كان "الحماس الزائد" قد دفع أحد وزراء الحزب لتعميم لائحة بأسماء المستفيدين من "مأذونيات" النقل في انتظار إصدار لوائح "الحيتان الكبرى" التي تضع يدها على رخص الصيد واستغلال الملك البحري العمومي، وهو ما لم يتحقق إلى اليوم. وقتها كان شعار الحزب في انتخابات 2011 "صوتك فرصتك ضد الفساد".
وفي خضم التدبير اليومي للشأن العام، صار التبرير والحديث عن العجز في التأثير في مجريات الأمور لازمة في كل مواجهة مع "خدام الدولة" ومحيطهم. قبل سنوات، أثارت الزيادات في تعويضات مسؤولي الإدارة الترابية (ولاة وعمال وباشوات وقياد...الخ) موجة استنكار وعد معها رئيس الحكومة بالعمل على دراسة الموضوع وجعل الزيادات في حدود معقولة، وهو ما انتهى إلى لا شيء.
وقبل أسابيع، منحت الحكومة تعويضات مالية سخية لرؤساء الجهات ومن يشتغلون تحت إمرتهم. كما سبق لها الزيادة في تقاعد الوزراء وغض الطرف عن الحملة الشعبية لإعادة النظر في أجور البرلمانيين، بعد زلة لسان الوزيرة شرفات أفيلال، التي اعتبرت ذلك التقاعد مجرد "جوج فرنك". كل هؤلاء "خدام للدولة" لم تقترب الحكومة، المحاربة للفساد، من امتيازاتهم بل سعت ما استطاعت إليه سبيلا لمكافأتهم والنفخ في مستحقاتهم. "صوتك فرصتك ضد الفساد" انتهى إلى لا شيء.
كان واضحا أن خمس سنوات من قيادة التجربة الحكومية، كانت كافية للسماح بمرور مياه كثيرة تحت جسر الحزب وأطره ومناضليه. حزب العدالة والتنمية ليس وحيدا في هذا المصير، فقد رأينا حقوقيين وسياسيين، عرفوا بشراسة دفاعهم عن المسحوقين، وهم يتحولون في حضن السلطة إلى منظرين للاستبداد في مواجهة رفاق الأمس وفي مواجهة ذاكرة النضال الجماعي، بعد أن توزعوا بين المجالس المنتخبة والاستشارية المعينة وذاقوا حلاوة "الريع المخزني". وكثير ممن ترتفع أصواتهم اليوم للتنديد بالريع لا ينتظرون غير الفرصة للدخول إلى بيت الطاعة المخزني.
من تافيلالت، أفقر الجهات المغربية، جاء الخبر اليقين أن رئيس الجهة، المنتمي لحزب العدالة والتنمية، الذي دافع دوما في أدبياته عن مبدأ الفصل بين السلطة والتجارة، يسعى إلى التحول إلى مستثمر فلاحي عبر كراء 200 هكتار من الأراضي السلالية بمعية أحد نوابه ومستثمرين آخرين. انتخب المواطنون الرجل، الذي كان وزيرا قبل أن يخرج من الحكومة على إثر ما سمي وقتها قضية الكوبل الحكومي، ليشتغل في الفضاء العام فقرر أن يسخر المجال العام للمصلحة الشخصية في تعارض واضح مع القانون المنظم لعمل الجهات. كان بالإمكان أن تواصل الدولة سكوتها على "نزوة" الحبيب الشوباني، فما هو إلا طامع في الانضمام للدائرة الضيقة لـ"خدام الدولة". لكنها الحرب معلنة وللدولة حساباتها الظرفية ولو لحين.
أحد قياديي الحزب الشباب علق على الموضوع قائلا: "ليس لنا الوقت والطاقة والمروءة للدفاع عن نزواتكم، ارتقوا ولو لحين".
المسألة ليست مسألة مبدأ واقتناع بقدر ما هي مسألة سوء تقدير لتوقيت يصادف انتخابات برلمانية مصيرية. والناخبون مجرد قطيع، في "دولة الخدم"، يساقون إلى صناديق الاقتراع لإنتاج "خدام" قد لا تقبل بهم الدولة دوما لكنهم يروضون مع الزمن ويأتونها صاغرين.
مرحبا بكم في "دولة الخدم"...
في تفسير ما سمي بالغضبة الملكية على رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، انبرى عدد من "المنجمين" السياسيين والإعلاميين للبحث في ثنايا حوار أجراه بنكيران مع موقع إلكتروني مغربي قال فيه إن ما يهمه هو رضا الوالدة، أما علاقته بالملك فهي مبنية على الاحترام والوفاء، وأنه يعتقد بوجود دولتين بالمغرب إحداها يرأسها الملك والثانية لا يعرف من أين تأتي قراراتها وتعييناتها. لم يخطئ عبد الإله بنكيران في حديثه عن "الدولتين" لكنه نسي التأكيد أنهما "دولة الخدام" و"دولة الخدم" درءا لأية تفسيرات أو تأويلات.
في الواقع، لم يقم رئيس الحكومة طيلة ولايته إلا بتكريس مفهوم الدولتين. ولأن الكثيرين في المغرب استحلوا استحضار النموذج التركي، فقد رأينا كيف تساقطت أركان "دولة الخدمة/الخدام" في بلد حصن تجربته الديمقراطية بتحقيق غير قليل من الكرامة والرخاء الاقتصادي لشعبه الذي ارتقى به من درجة "الخدم" إلى المواطنة الكاملة. هؤلاء "الخدم" هم من خرجوا دفاعا عن الشرعية وعن الديمقراطية التي ذاقوا حلاوة العيش تحت سقفها، أما "الخدام" فقد توزعت ولاءاتهم بقدر الاستفادة التي يحققون. في المغرب نصر على تكريس ثنائية "دولة خدام الدولة" في مواجهة "دولة الخدم". والواقع الإقليمي والدولي أظهر أن الركون إلى ما قد يبدو استقرارا في الظاهر، وهو الكلمة المفتاح في التجربة المغربية، نزوع إلى الانتحار...