لأن النفوس، كما يقول عباد الله الصعايدة، "شايلة"، بعد أن ولت مرحلة الصفاء، التي كان فيها الإخوان، هم "الأخ الأكبر"، يصبح من الطبيعي الآن أن ينحاز بعض المنتمين للجماعة الإسلامية، والدوائر القريبة منهم، للشيخ "محمد حسان"، ولو من باب تبرير سوء عمله ليراه حسنا، ويصبح من الطبيعي أيضاً، أن الشيخ "عاصم عبد الماجد"، يساوي بين الشيخ متولي الشعراوي، والمذكور محمد حسان!
وليست الخلافات فقط، بين الإخوان وغيرهم من الجماعات الدينية، هي التي تقود لنصرة "حسان" والارتفاع به فوق الأشلاء، حتى لا تشوه ثوبه الأبيض نقطة دم من نهر الدماء التي سالت في "رابعة" و"النهضة"؛ فالإسلاميون لا يرحبون كثيراً بفكرة نقد شيوخهم، حتى لا يتطاول عليهم العامة من أمثالنا، لذا فقد نفروا خفافا وثقالاً دفاعاً عن "حسان"، في انحيازه لقائد المجازر، وعلى قاعدة "الحي أبقى من الميت"، فالكلام الآن لن يعيد من قتلوا، إذن فلا مبرر للتضحية بالرمز الإسلامي الكبير "محمد حسان"، وإذا كانت الحركات الإسلامية هي التي بدأت عملية الفرز، فهذا عالم محترم، وذاك من علماء السلطة، حيث إن قدر الأول محفوظ، وعرض الثاني مستباح، فإنها في مرحلة النضوج لا تريد فتح الباب لنقد "أصحاب المقام الرفيع"، وإن ارتكبوا المنكرات، واستباحوا الحرمات، حتى لا يتطاول عليهم أمثالنا.
وإذا كان لابد من نقد، فهو يوجهه الشيوخ للشيوخ، والأئمة لبعضهم، وأبناء التيار الإسلامي لرموزهم، وهذا ليس مسموحاً به لمن هو خارج هذا التيار. وفي هذا الصدد أذكر أنني انتقدت الشيخ "عبود الزمر" في أمر من أمور السياسة، كان هو منحازاً فيه للعسكر، لأن العرق دساس، وكان نقدي له من منطلق ثوري بحت، فإذا بي أواجه بهجوم من أبناء التيار الإسلامي الذين يقفون معي في نفس الخندق، بينما شيخهم يقف ضدهم في خندق السيسي، حتى صرت على يقين من أن الأشخاص عند هذا الفريق من الناس، أهم من المبادئ، وفي المواقف يتراءى لي الشخص عند البعض أهم من الإسلام، فقد تستباح حدود الله، فلا يزعجهم هذا لكنهم ينتفضون خماصاً وبطاناً، إذا تم الإمساك بأحد الشيوخ ولو من طرف ثيابه!
السلفيون، فصائل مختلفة، ومن السلفية المناضلة التي يمثلها الشيخ محمد عبد المقصود، إلى السلفية المنبطحة التي يمثلها "محمد سعيد رسلان"، إلى السلفية الخانعة الخاضعة التي يمثلها محمد حسان، في الأزمة الأخيرة. وإذا كان الشيخ عبد المقصود، تبدت ثوريته للناظرين، وانتقد حسان بشدة، فإن آخرين وإن انتموا للثورة، وجدوا أن "صاحب الوساطة" مع العسكر هو الأقرب إليهم، من جماعة الإخوان، فهبوا يبررون جريمته من هذه الزاوية لأنه لا ينفع الدفاع، وقد ارتكب محمد حسان "الحرام الوطني"، وقد أصبحت قضية "الشرعية" شأناً إخوانياً خالصاً، كما أراده الإخوان، وانسحب من تحالف دعم الشرعية لهذا أحزاب لا يستطيع أحد الطعن في ثوريتها أو يزايد عليها؛ "الاستقلال نموذجاً". ولأن "النفوس شايلة" فكان التبرير لحسان، واستدعى الشيخ عاصم عبد المجد (من القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية) واقعة جرت بينه وبين الشيخ محمد متولي الشعراوي، في معركة الدفاع عن حسان، فعبد الماجد غاضب، ومرآة الغضب كمرآة الحب: "عمياء"، وقديما سأل طفل والده عما إذا كانت مرآة الحب عمياء فعلاً، فقال له: انظر إلى أمك لكي تعرف!
"النفوس شايلة" بمعنى أنها تحمل غضباً مكتوماً، يجري التنفيس عنه ببضع كلمات تعليقاً على هذا الموقف أو ذاك، لأن الجماعة الإسلامية، وقد نسيت بعد الثورة كل الخلافات القديمة مع الإخوان، وحاولت التقارب معها، على أساس أن هناك تحديات تواجه التيار الإسلامي، تستدعي الاحتشاد حول "الأخت الكبرى" وهي جماعة الإخوان، و"لأن الأعور وسط العميان سلطان"، فقد تعاملوا مع جماعة الإخوان باعتبارها الأكثر فهماً للسياسة في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها
مصر. وكان أول خذلان في الانتخابات البرلمانية، وبعيداً عن التفاصيل، فلم تكن المعاملة بنفس درجة الاحترام، التي عومل بها "حمدين صباحي"، وعلى أثر هذا تركت الجماعة الإسلامية، ولم تكن قد أسست حزب "البناء والتنمية"، "التحالف الوطني"، إلى قائمة "النور"، التي كانت قائمة لكل الفصائل السلفية بتنويعاتها المختلفة التي قررت خوض غمار السياسة!
وبعد الانتخابات وعندما تعامل الإخوان مع "النور" على أنه منافس، وقرروا حرمان نوابه من أي منصب قيادي في المجلس، لإثبات التمايز مع تيار إسلامي متشدد، كان ظهوره في جمعة الشريعة بميدان التحرير، باللحى الطويلة، والجلاليب القصيرة، والسراويل الممتدة إلى ما فوق الصرة، وكأنهم قدموا تواً من صحراء نجد، مبرراً لهلع الشارع السياسي، وأردت من ناحيتي طمأنة الناس، فكتبت يومئذ: "لا شيء يخيف في ميدان التحرير"!
وإزاء هذه المعاملة من قبل "الأخت الكبرى"، قررت القوى المدنية استغلال الموقف، لتشكيل أغلبية برلمانية مع "النور" لاختيار رئاسة المجلس وهيئة المكتب بعيداً عن الإخوان، لكن "الجماعة الأم" تمكنت من إعادتهم إليها مرة أخرى، فيكفي عبارة رقيقة لهذه الوجوه المخيفة، القادمة من زمن "ثكلتك أمك"، فيتحول صاحب الوجه في التو واللحظة، إلى ولي حميم، فأعضاء الجماعة الإسلامية هم في معظمهم من الصعيد، وهم "صعايدة الحركة الإسلامية"، وتشعر أن الصعيدي في العموم يفتقد للحنان، فيقتل القتيل ويذوب رقة أمام الكلمة الحانية، وقد تكون له ملاحظات على خطيبته، ومع ذلك يقول يكفي أن أمها "ست طيبة"!
في الانتخابات الرئاسية، كانت الجماعة وحزبها "في ظهر" الإخوان سنداً ومعيناً، فلم يتفاوضوا على مكاسب أو مغانم، وعندما بدأت الفتنة كانوا الأقرب لها من حبل الوريد. وعندما كانت الأمور في حدود المعارضة السياسية، التقيت ببعض قياداتهم في مكتب صديق، وقلت لهم إن موقعهم الصحيح ليس في خندق الإخوان، وإنما مع التيار المدني لنضع حد لهذا التسلط، فاستمعوا لي قبل أن ينتصب أحدهم خطيباً ويعلن أن معركتنا نحن ليست مع الإخوان ولكن مع التيار الإسلامي، وعندما نجهز على الجماعة الكبرى، فسنلتف لهم هم، وكل ما قلته عن الإخوان هم يعرفونه لكنها معركة التيار الإسلامي كله.. هل قال: بل معركة الإسلام؟!
عندما اشتدت الفتنة، وتقاعست وزارة الداخلية عن القيام بدورها، كان للجماعة خطط لسد هذا الفراغ لم يتم الالتفات لها، ولم يترك هذا في قلوبهم غصة، واستمروا في طريق الانحياز للشرعية خلف "الجماعة الأم". وبعد الانقلاب، لم يشركهم الإخوان في شيء، وكانوا كالأطرش في الزفة، لكنهم كانوا دائماً يعتقدون أن "الأخ الأكبر" عنده خططه للمواجهة، وباعتباره صاحب تاريخ في عالم السياسة فهو لا ينطلق من فراغ!
وفي الصعيد، وعندما دفعت قوات الأمن بمن يقتحمون مقار حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان، كان من حماها هم أبناء الجماعة الإسلامية، في حين سقطت كل المقار في "الوجه البحري"، لأن قرار مكتب الإرشاد أنه إذا جاء البلطجية لاقتحام المقار فاتركوها لهم، حقناً للدماء، مع أن الحماية التي تمت لم يُدفع في سبيلها قطرة دم واحدة!
وعندما بدأ الإحساس بأنه لا شيء هناك، وليس تحت القبة شيخ، كانت المظاهرات تملأ الشوارع وليس هذا وقت إظهار ما في النفوس، لكن المظاهرات هدأت، والثورة جرى تسقيعها بلغة تجار الأراضي والعقارات، فكان لابد من زفرات أن تخرج، لم تجد من يحتويها فصارت بركاناً، يصدر من قلة على رأسها الشيخ عاصم عبد الماجد، وهناك أمران ساهما في إذكاء روح الخلاف غير الشعور بأنهم كانوا ضحايا حسن الظن، وفي الفهم الأنثربولوجي لطبيعة الصعيدي، أنه لن يغفر سريعاً لمن يخدعه أو يضلله!
الأمر الأول: أن الجماعة الأم في الخارج لم تتصرف على أنها دولة مسؤولة عن رعاياها وحلفائها، ولكنها تعاملت على أنها تنظيم لا يشغله إلا المنتمون إليه، وهذا طبيعي فمن يمثلون الطبقة السياسية في الإخوان هم الآن في السجون ومن في الخارج هم في غالبيتهم من رجال التنظيم!
الأمر الثاني: من متابعة حملة الهجوم على الرجل والتعليقات التي تستخدم فحش القول، ممن لا يوقرون كبيرا، ولا تحكمهم قاعدة "ولا تنسوا الفضل بينكم"، لابد أن تشعره بأن القوم أغروا به صبيانهم!
والحال كذلك، جاءت شهادة"محمد حسان"، حول "وساطته" في أيام اعتصام "رابعة" لتدفع بالشيخ عاصم إلى أن يذهب بعيداً إلى حد استدعاء موقف جرى بينه وبين الشيخ الشعراوي، ليدعو لالتماس العذر لمحمد حسان، وكأن ما جرى هو خلاف في وجهات النظر، وكأن الدماء التي سالت في "رابعة" وغيرها، هي مياه!
الواقعة ملخصها أن عاصم في مرحلة الشباب احتد أمام عشرة آلاف شخص على الشيخ الشعراوي، وعندما قررت إدارة الجامعة استغلال ما جرى للتنكيل به، دافع عنه الشيخ، ودعا للشباب طويلا. وهو يخلص من هذه الواقعة بأنه لابد أن يلتمس الأعذار لمن يقولون كلمة لصالح الحاكم لينجو منه فقد يكون بهم ضعف، فالشيخ المقرب من السلطة رفض أن يتم التنكيل به. وهو قياس فاسد كما يقول الفقهاء لهذه الأسباب:
أولا: أن الشيخ الشعراوي هو مثل طبقة من كل التوجهات السياسية، كانت قريبة من الأنظمة، كانت تعتبر نفسها جزءا من الدولة المصرية، ومن بين هؤلاء رؤساء الأحزاب في هذه الفترة، ولم يكونوا أداة في يد الأجهزة الأمنية وخدما في بلاطها، وكل ملابسات "فتنة حسان" تؤكد أن هذه الأجهزة هي التي استدعته لينطق الآن بعد أن صمت دهراً، وقد يكون هذا موضوع مقال آخر.
ثانياً: أن الشيخ الشعراوي وإن كان قريبا من السلطة، ونافقها برأي أو بموقف، فهو لم يبرر للقتل، ولم يُستخدم لإفلات القاتل من جريمته، كما فعل حسان الذي ليس جزءاً من السلطة، وإنما هو عميل للأجهزة الأمنية في الداخل والخارج، وهذا الانقلاب الذي حدث في مصر كانت وراءه دولة إقليمية ترعى حسان وسلفيته!
ثالثا: أن الشعراوي عندما وقف مدافعاً عن السادات في مجلس الشعب وقال لو كان بيدي شيء من الأمر لرفعته إلى درجة من لا يُسأل عما يفعل، كان في يوم الجمعة هناك أعلى صوت في القاهرة يرتفع مندداً به، مع أنه كان إمام مسجد يقع تحت ولاية "الشعراوي" وزير الأوقاف، وهو الشيخ كشك ولم يبرر أحد لموقف الشعراوي، ولم ينكل الوزير بالإمام، ولم يندد أحد بموقف كشك، ولم يقل أحد إن لحوم العلماء مسمومة، مع أن لحم الشعراوي لا يقارن أبدا بلحم نبت من سحت، وإذا كانت وظيفة صاحبكم داعية، فهل توفر هذه الوظيفة لصاحبها حياة السلاطين التي يعيش فيها من يعمل في بلاطهم؟!
وعلى ذكر الشيخ عبد الحميد كشك، فقد كان الداعية الأشهر في مصر، وعمل في مجال الدعوة، بمقدار عمر "محمد حسان" ومات فقيراً، أما ثراء الشعراوي فقد كان بسبب عمله في الخارج ومن الجزائر إلى السعودية!
ويا عزيزي عاصم عبد الماجد، إن المعركة الآن ليست بين محمد حسان والإخوان، ولكنها بين الثورة، التي شاركت فيها أنت والإخوان، وبين الثورة المضادة التي يمثلها السيسي وحسان!
وإذا كنت ترى أنه بلحيته وجلبابه وسلفيته هو الأقرب لك من الإخوان، وأن ما يجمعك به دينيا أكثر مما يجمعك بالإخوان، فاحذر وحاذر واخشع وأعلم أنه ليس من أهلك..
إنه عمل غير صالح.