كتاب عربي 21

فصل من فصول عملية مكافحة الإرهاب (2)

طارق أوشن
1300x600
1300x600
في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، وجه صحفي سؤالا إلى مندوب سوريا الدائم هناك بشار الجعفري: هل قصفتم مستشفيات حلب؟
لم يرد الجعفري بل واصل طريقه واثقا أنه بمنأى عن العقاب وهو يقهقه شامتا وغير آبه بالسؤال وبمن طرحه..
يحق للنظام السوري وممثليه أن يتبختروا ويتعالوا على أسئلة المجتمع الدولي، فالجرائم التي يرتكبها وحلفاؤه في حق الشعب السوري ستبقى لا محالة بدون عقاب في ظل تشرذم مصالح القوى العالمية المؤثرة وانشغال أغلب "زعمائها" بقضايا محلية لعل أبرزها انتخابات تكاد تكون احتمالات فوزهم فيها معدومة. ففي فرنسا "يجاهد" الرئيس فرانسوا هولاند لإقناع حزبه وأحزاب "اليسار" بأنه الأصلح دون توفيق، وكل ما استطاع فعله زيارة مدينة كاليه لأول مرة منذ انتخابه لتفكيك معسكر اللاجئين هناك. وفي ألمانيا تعيش المستشارة أنجيلا ميركل تراجعا مخيفا في شعبيتها بما أثر في نتائج حزبها في الانتخابات الأخيرة وينذر بتصويت عقابي يبعدها عن سدة الحكم. أما في إسبانيا فالأحزاب السياسية لم توفق بعد في تشكيل حكومة منذ ما يقرب السنة، وبقية البلدان الأوربية على وقع الأزمة تعيش. أما في أمريكا فيغادر باراك أوباما وكل همه توريط المملكة العربية السعودية في براثن قانون سيغل يدها ويجعلها منكفئة على ذاتها في انتظار مصير مجهول ليس أقله ما تلا قانون معاقبة سوريا ذات سنوات. وحده الدب الروسي يبدو ممسكا بزمام الأمور واثق الخطى في اتجاه ضم سوريا إلى "محظياته" بعد أن صوت مجلس الدوما بالإيجاب على إبقاء الوجود الروسي هناك لأجل غير مسمى مع منح الجنود الروس الحصانة كأي بعثة ديبلوماسية تتواجد على الأرض السورية. كل هذا و"ديمقراطيات الغرب" تبحث عن الوسيلة الأنجع لردع موسكو عن التنكيل بالمدنيين بحلب وغيرها دون توفيق أو هكذا يراد له أن يظهر للعموم.
حقيقة الوضع أن روسيا أو سوريا سيان وما الفرق إلا في ترتيب الأحرف ليس إلا.
فيلم (البحث- 2014) للمخرج ميشيل هزانافيسيوس.
لاتزال كارول، الموظفة باللجنة الأوربية لحقوق الإنسان، التي عهد إليها بإنجاز تقرير عن أوضاع اللاجئين الشيشانيين، تنتظر ردا من لجنة الخارجية بالمجموعة الأوربية لعرض تقريرها.
مترجمة شيشانية: هل هناك جديد بخصوص لجنة الشؤون الخارجية؟
كارول: لا! ما من جديد. لا أتوقف على الإلحاح والاتصال لكن لا ردود حتى الآن. المؤلم هو عدم اكتراث الناس بالأمر.. هذا لا يصدق.. حتى عائلتي لا تهتم إلا بالاحتفال بالمرور إلى الألفية الثانية...
عائلة كارول موجودة على بعد مئات الأميال من أرض المعارك. لكن المفاجأة كانت اهتمام المترجمة وزميلة أخرى غربية بالحدث ذاته، فالأمر لا يتكرر إلا كل ألف سنة كما تقول. والاحتفال يستدعي شراء ملابس نسائية جديدة لإغواء الزوج والصديق..
وفي الوقت ذاته الذي كانت كارول "تجاهد" فيه لإقناع لجنة الشؤون الخارجية بالمجموعة الأوربية لسماع تقريرها، كانت روسيا تدفع بالحشود إلى ساحة المعارك ليشعلوا النيران بالشيشان، وكان كوليا يغادر خيمة القتلى  لمحاربة "الإرهابيين" على الأرض بعد أن صار بإمكانه أن يمشي في المعسكر واضعا يديه في جيوب سرواله فقد صار جنديا "حقيقيا" وفق القالب الذي تريده المؤسسة العسكرية الروسية وتسعى إليه.
لنتابع الفيلم...
داخل مركز للشرطة بمدينة تبعد عن الحدود الشيشانية ب 2300 كلم، يدخل الشاب كوليا على ضابط التحقيق بعد أن اعتقله شرطيان بتهمة حيازة مخدرات.
ضابط الشرطة: كم عمرك؟
كوليا: 19 سنة.
ضابط الشرطة: أنت صغير لتدخل السجن. هل لديك أي شيء ضد الجيش؟
كوليا: لا.
ضابط الشرطة: انتظرني في الممر. سأرى ما يمكنني فعله من أجلك.
كوليا: شكرا سيدي.
بين خياري السجن والجيش، اختار كوليا الخيار الثاني معتقدا أنه أفلت من العقاب. في القطار مجموعة من الشباب من مثل سنه يتوجهون إلى نفس المعسكر، وهناك كانت أولى "تباشير" الجحيم الذي سيعيشه وصول طائرة عسكرية محملة بجثث جنود قضوا في ساحات القتال.
في معسكر الجيش، يسير الكولونيل، رئيس المركز، ووراءه كوليا وجندي زميل آخر. يدخلون إلى أحد العنابر حيث جندي متدرب مضرج بالدماء..
الكولونيل: لقد أطلق هذا الوغد رصاصة على رأسه. يجب نقله إلى خيمة القتلى وكتابة تقرير عن مقتله في ساحة الحرب.
كوليا: ما الذي وقع؟
الكولونيل: لا أهتم بما وقع..
كوليا: لكنه لم يمت في ساحة القتال..
الكولونيل: لا تثر أعصابي.. نفذ الأوامر وبسرعة..
كوليا: حاضر سيدي... أكتب فقط أنه مات في ساحة القتال.
الكولونيل: بالضبط. هل لديك مانع؟ بهذه الطريقة لن يتأثر الآباء إذا علموا أن ابنهم الشاذ هذا انتحر برصاصة. إننا نحوله لبطل وهذا شيء مهم.
صار كوليا مكلفا بتسجيل وصول الموتى. وعلى باب خيمة القتلى يقضي وقته في متابعة الطائرات العسكرية وهي تنقل زملاءه إلى جبهات القتال. إنهم يدفعونك دفعا لتتمنى شيئا واحدا وهو الزج بك في الحرب الحقيقية لتثبت لهم أنك جندي حقيقي وأنك تستحق أن تكون واحدا منهم.
كانت أولى طلقاته موجهة إلى صبي شيشاني هارب برفقة عائلته من نيران القصف الروسي على قريتهم.
كوليا لا يصدق ما أقدم عليه فقد ألقي به في أتون معركة لم يكن مستعدا لها.
كوليا: يا إلهي ماذا فعلت؟ لقد قتلت أحدا.
بعد انتهاء المعركة يجلس كوليا مع زملائه الجدد يتندرون بما وقع له.
جندي 1: اسمع ما أقوله لك. هل تعتقد أنها مصادفة أننا وجدناهم هنا؟ الشيشانيون هم من وضعوهم هنا. إنهم يرسلون فتيات صغيرات لتفجير أنفسهن. ليس هناك من أبرياء في الشيشان.. يجب أن تستوعب ذلك جيدا يا صديقي..
جندي 2 (متهكما): شيخ  وصبي. هذا شيء ملفت.. أحييك على قائمة الصيد هذه..
كوليا: في المرة القادمة سأسعى لتحقيق نتيجة أفضل.. هذا يوم فقدان عذريتي.
جندي 2: أهي أول مرة تقتل فيها أحدا؟
كوليا (خجلا): نعم..
تتعالى الضحكات من كل جانب.
لقد أصبح كوليا جنديا وصار يتنقل مع فرقته من قرية إلى أخرى مدعوما بالطيران الروسي بحثا عن "الإرهابيين". وفي مدخل إحدى القرى استل كاميرا من يدي جثة جندي قضى في الحرب ليواصل توثيق مشاهد الدمار كما رأيناها في مشهد قتل والد ووالدة حاجي  في الجزء الأول من المقال.
بعد قتل الأب والأم يسمع الجنود صوت بكاء رضيع من داخل بيت العائلة.
يتوجه أحدهم لاستطلاع الأمر تنفيذا لأوامر زميله.
داخل البيت كان حاجي، وهو طفل في التاسعة من عمره، يتابع مشهد قتل والديه وهو يحضن أخاه الرضيع. مع اقتراب الجندي من البيت يضع حاجي أخاه الرضيع على كنبة قريبة ويختبأ وراء سرير. يدخل الجندي .. يقف أمام الرضيع مصوبا سلاحه في اتجاهه للحظات قبل أن يبدأ في فحص المكان. وعندما اطمأن لعدم وجود أشخاص آخرين يضع "اللهاية" في فم الرضيع لاسكاته وهكذا كان..يخرج بعد أن يربت على رأسه مداعبا..وعلى خلفية صورة الرضيع نسمعه يقول:
الجندي: ليس هناك من أحد هناك.
هي لحظة إنسانية نادرة استطاع خلالها الجندي المعد ليكون آلة قتل وتدمير أن يستعيد آدميته ويغلب الجانب الإنساني فيه.
كارول لم تستطع للحظة القيام بالشيء نفسه وهي المدافعة عن حقوق الإنسان. وفي ممر من ممرات إدارة مخيم اللاجئين  تشتكي من عدم قدرتها على رعاية  الطفل حاجي، الذي هرب من المخيم وفرض نفسه ضيفا عليها في شقتها، مقترحة أن تستعيده هيلين، مديرة المخيم، وتضمه إليه مجددا.
هيلين: ما الذي تنتظرين سماعه مني؟ أعتقد أنك ستكونين أكثر فائدة في الاهتمام بطفل اختارك أنت. كل ما تقومين به هنا مهم دون شك. لكن إن كان الأمر سينتهي بمثل البيان الأخير الذي أصدرته المجموعة الأوربية ...
كارول: اهدئي قليلا.. أنا أشتغل لفائدة لجنة حقوق الإنسان ويمكنني أن أؤكد لك أن موقفنا سيكون مغايرا. أنا متأكدة من ذلك.
هيلين: لا أحد يهتم لذلك.
كارول: ماذا؟
هيلين: لجنة حقوق الإنسان مهتمة بحقوق الإنسان لا تمثل سبقا صحفيا. لا أحد يهتم بتقاريركم.. هي مجرد أوراق لا غير.
كارول: لا أفهم سببا لتهجمك علي. أنا أفعل ما باستطاعتي وأتحرك.. هل هي منافسة؟ هي كذلك؟ ليس لأنني لا أهتم بأطفال يصبح عملي بلا فائدة.
هيلين: كما تشائين.. لدي عمل كبير ينتظرني. أعتذر إن كنت جرحتك.. كنت غير مؤدبة في الحديث إليك. لكنني مقتنعة كليا بما قلته لك.
أوروبا ودول الغرب لم تتحمل سيل المهاجرين إليها. وصار الموضوع يشكل إحراجا للحكومات أمام الشعوب وخسارة مؤكدة للأصوات. وبدل أن تهتم تلك الدول باللاجئين "اختاروا" اللجوء إليها، أغلقت الحدود في وجوههم وانتقل ممثلوها إلى نيويورك لعقد الاجتماعات بمجلس الأمن بحثا عن سبل لوقف الحرب والتباكي على المأساة الإنسانية وإدانة بربرية الروس والنظام الأسدي. مجلس أمن يهتم ب"إقرار" الأمن لا يمثل سبقا صحفيا ولا أحد يهتم بقراراته التي تتحول إلى مجرد أوراق أمام  الفيتو الروسي المسلط على الرقاب.
هذا واقع الحال في سوريا وهكذا كان في الشيشان. والنتيجة "رئيس" باسم رمضان قاديروف على رأس شبيحة باسم "ميليشيا قاديروفستي"، يمنحه فلاديمير بوتين وسام الشرف شهر مارس الماضي بعد أن أعاد تعيينه رئيسا مؤقتا في انتظار الانتخابات. قاديروف لم يفوت الفرصة ليشكر بوتين على "دعمه عملية السلام في اقليمه الذي واجه الإرهاب وعملية الإعمار" قبل أن يواصل : "نحن جنود الرئيس الروسي. وسأبقى ممتنا لفلاديميروفيتش دائما.. إن تقديم الحياة فداء لهذا الرجل أمر جد يسير وأؤكد استعدادي لتنفيذ أي أمر".  قاديروف فاز في الانتخابات الأخيرة قبل أيام بنسبة فاقت 99 بالمائة، وقبلها أعلن عن بطولته لفيلم أمريكي بعنوان "الذي لم يفهم سيفهم".
فتش عن مستقبل سوريا والأسد فيما سبق.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل