في سبيل إنهاء عقود من الفوضى العارمة، ينبغي للسياسيين
العراقيين إيجاد طريقة لإشراك الشعب في ثروة البلاد النفطية بدلا من تكرار الأخطاء التي وقعت في المدينة التي تسيطر عليها
داعش.
العراق هو المركز السياسي لمنطقتنا، إنه صورة مصغرة لكل المشاكل السياسية والاقتصادية والسكانية التي توجد في مختلف أرجاء الشرق الأوسط، وهو بالتالي قلب معاناتنا.
لقد جرب العراق طوال القرن العشرين مختلف أشكال عدم الاستقرار والألم. بعد عام 1980 وحده، خاضت البلاد أطول حرب تدور رحاها في القرن العشرين مع الجارة إيران، وتكبدت الدمار والتكلفة الباهظة لحرب الخليج، ثم ما لبثت بحلول الألفية الجديدة أن تعرضت للغزو والاحتلال، مما فاقم من حالة الشك والترقب وأوصلها إلى مستويات غير مسبوقة.
وهذا البلد الذي لم يتمكن على مدى 36 عاما من الإفلات من دائرة الحروب المتواصلة، ولم ينج من نظام العقوبات، ووقع تحت
الاحتلال ثم في آتون الحرب الأهلية ومازال يعاني اليوم، وما من يوم يمر عليه إلا طرق بابه مزيد من القلق.
بعد الاحتلال الأمريكي تكسر العراق على ثلاث مراحل. أما الكسر الأول فكان خلال الفوضى التي سادت عندما حُلت الحكومة وحُل الجيش ضمن سياسة اجتثاث
البعث. وأما الكسر الثاني فتمثل في الاستقطاب العنيف والطائفية المقيتة التي نجمت عن انتخابات 2005 التي لم تكن البلاد قد استعدت لها كما يجب. وأخيراً، جاء الانكسار الثالث على إثر إقصاء القائمة العراقية من النظام السياسي عبر تشكيل تحالف قصري بعيد انتخابات عام 2010.
ما يزال الانكسار الذي وقع عام 2010 هو المصدر الأساسي لأزمات العراق حتى يومنا هذا، وكانت النتيجة الأولى له هو تشكل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، حتى أن ما يقرب من خمسين عاما من الأزمات العراقية انتهى إلى مشكلة واحدة ووحيدة هي داعش، تماماً بالطريقة نفسها التي يتم من خلالها تجاوز المجازر التي يرتكبها نظام الأسد بحجة أن الأولوية الأولى هي للحرب على داعش.
يبدو الأمر كما لو أن داعش هي أسوأ كارثة تحل بالعراق على مدى الأعوام الستة والثلاثين الماضية، وذلك على الرغم من أن الجذور التي أنبتت هذا التنظيم تتمثل في عقود خلت من الفوضى العارمة.
ومع ذلك، ما من شك في أن تواجد داعش داخل
الموصل بالذات ناجم عن الإدارة التي تمسك بمقاليد الأمور في العراق منذ ما بعد الاحتلال بالقدر نفسه الذي هو ناجم عن سلوكيات التنظيم. وبشكل أعم، كل الأسباب التي قادت إلى نشأة التنظيم تقريباً تعود في جذورها إلى الاحتلال الأمريكي وإلى مختلف الحكومات العراقية التي تشكلت ما بعد الاحتلال.
إلى حد بعيد، استمد تنظيم داعش قدراته العسكرية من جهاز الدولة ومن الجيش الذي حُل بأسوأ أسلوب على الإطلاق وفي حالة من انعدام الشعور بالمسؤولية. في الوقت نفسه، يمكن الجزم بأن الدعم الذي منحته المكونات الاجتماعية والعشائر المحلية لتنظيم داعش كان بمثابة رد فعل على السياسات الطائفية للحكومة العراقية والتي تجاوزت في سوئها كل ما كان ينسب إلى صدام حسين من سوء.
السياسات التي انتهجت في الفترة ما بين 2005 و2012، والتي ساهمت في تشكيل تنظيم داعش في العراق، تفاقمت لتشكل مرحلة أكثر خطورة في عهد "حليف دمشق" نوري المالكي.
في سوريا، أخليت السجون على عجل، مما أطلق العنان لداعش لتنقض على المعارضة السورية. تجاهلت هذه السياسة بشكل كامل المشاكل المحتملة التي كانت ستنجم عنها في العراق، وما لبثت أن فتحت الطريق على مصراعيه أمام داعش. كان من المفروض أن تساعد داعش النظام في دمشق، إلا أنها بدلا من ذلك استولت على الموصل وتحولت إلى خطر يتهدد بغداد.
عند هذه النقطة، وبشكل مستقل عن الهجوم على الموصل، سيظل مشروع استئصال داعش ومن على شاكلتها من تنظيمات في المستقبل مقاربة ساذجة ما لم يتم وضع أجندة لحل "المشكلة السنية" في العراق وفي المنطقة ككل.
بوجود الجماعات التي تتخذ من النجف مقرا لها في الجنوب، ووجود المنطقة الخضراء في بغداد وضواحيها، وبوجود حكومة إربيل في الشمال، ووجود المناطق التي تسيطر عليها داعش حول الموصل، أصبح العراق بلدا عصياً على الحكم وبات بلا مظلة من المؤسسات الأمنية.
تسود العراق حاليا حالة من الفوضى العارمة، بما فيه من ميليشيات شيعية وجماعات إرهابية عابرة للحدود مثل حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش، وبما ينتشر فيه من جيوش تابعة لمختلف الجماعات الشيعية وكذلك الجماعات السنية. في الوقت نفسه يعاني النسيج المجتمعي في البلاد من حالة خطيرة من التمزق والتشرذم.
في المرحلة القادمة لا يوجد سوى سبيل واحد للخروج: في بلد كل دخله يرد من مصادر الطاقة، ينبغي لجميع المعنيين إدراك أنه لا مفر من شراكة سياسية تسمح للجميع بالاشتراك في الثروة.
إلا أن "المشكلة السنية" تظل في القلب من أزمة الشراكة السياسية، وهذا هو الإرث القادم من أيام الاحتلال الأمريكي حينما جرى تهميش وتجاهل السنة العرب والكرد والتركمان، وهو الأمر الذي ما يزال قائما، ولابد أنه أصبح مستوعباً بشكل جيد.
في الموصل، ينبغي عدم تكرار الخطأ الكارثي نفسه الذي ارتكب من قبل في الماضي. ومع ذلك، حينما يتأمل المرء في الإدارة داخل بغداد وما يبدو لديها من رغبة جامحة في تكرار نفس ما عمله تنظيم داعش داخل الموصل، فلا يملك كل ذي لب إلا أن يتملكه الرعب.