وجد وزير الشؤون الدينية نفسه مقالا من منصبه بسبب انتقاده العلني للوهابية أثناء رده على أسئلة نواب البرلمان
التونسي.
فعندما سأله أحد نواب "الجبهة الشعبية" اليسارية عن علاقة الفكر الوهابي بتأسيس الحركات الإرهابية وتغذيتها، نسي الوزير أنه يمثل حكومة حريصة على أن تكون لها علاقات قوية مع المملكة العربية السعودية، وانطلق في نقد هذا الفكر دون تحفظ، وحتى يثبت جديته ومصداقيته أمام مستمعيه ذكر بأنه نصح السعوديين بـ"إصلاح مدرستهم التي تقف وراء موجة الإرهاب التي تهدد الجميع".
لم تكن حكومة الشاهد مستعدة لتحمل تبعات هذا الكلام الذي صدر عن أحد أعضائها، وقررت التضحية به دون تردد حتى تحافظ على ثقة السعودية، وأملا في أن توسع هذه الأخيرة من حجم استثماراتها.
حادثة الوزير، الذي لم يتمتع بكرسي الوزارة سوى لمدة شهرين فقط، أعادت الجدل حول إشكالية المثقف والسياسي. إذ لكل منهما مقاسه وأسلوبه، ومن يفشل في التمييز بين الدورين يكون مآله في الغالب سيئا، أو على الأقل متعارضا مع طموحاته أو مع مبادئه وقناعاته.
ما جاء على لسان وزير الشؤون الدينية قول شائع في صفوف عموم التونسيين، خاصة النخب الحديثة.
هناك اعتقاد سائد بأن ما يسميه الكثيرون بـ"الوهابية" تقف وراء التشدد الديني الذي اخترق الساحة التونسية خلال السنوات الأخيرة، وأثر بوضوح على الآلاف من الشباب ودفعهم إلى الانخراط الواسع في تنظيم القاعدة أو الالتحاق بداعش.
هذا رأي سائد، لكن هل يمكن أن يصدر على لسان مسؤول رسمي في الدولة، خاصة إذا كان هذا المسؤول يتولى إدارة الشأن الديني في البلاد؟ أي بمعنى آخر، هل الوزير يوجه وزارته حسب قناعاته الشخصية، أم أنه ملتزم ببرنامج حكومي مترابط الحلقات، وأنه عندما يتحدث في أي مسألة من المسائل المتعلقة بالشأن العام يجب أن يراعي مصالح الدولة التي يتكلم باسمها ومهمته هو الدفاع عنها ومراعاتها؟
لم يجد الوزير من يدافع عنه عندما صدر القرار بإقالته. حتى حركة النهضة التي قامت بتزكيته لم تكن مستعدة ولو لحظة واحدة لإيجاد مخرج له. ولو لم تفعل ذلك لوجدت نفسها مرة أخرى في قطيعة مع السعودية، ولأضاعت الجهود الكثيفة التي بذلها رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي من أجل استعادة ثقة المملكة على إثر وقوف هذا الأخير إلى جانب الرئيس صدام حسين بعد غزوه للكويت.
يضاف إلى ذلك أن الغنوشي نفسه يرى في الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحد المصلحين الكبار، وسبق له في مقال شهير أن وصفه بالمجدد، واعتبر الحركة الوهابية حركة إصلاحية، وأن ما حصل فيما بعد ليس سوى خروج عن أصول المذهب كما يقال في تقييم الحركات والجماعات.
أي بمعنى آخر، غلبت السياسة على الفكر، لأن من بين معضلات الغنوشي ومن ورائه حركة النهضة هو البحث المتواصل عن التوفيق بين الخطاب والمصالح. إذ من جهة تتواصل الرغبة في التأكيد على الهوية الدينية للحركة مع الحرص على استرضاء جميع التيارات من الإخوانية إلى السلفية في سعي منه إلى كسب دعم الجميع، ولكن على الجانب الأيسر تعيش الحركة تحت ضغط شديد من قبل النخب الحديثة في داخل البلد والقوى الغربية.
لهذا تعمل الحركة باستمرار على بناء الحد الأدنى من الثقة مع هذه الأطراف، ولا يكون ذلك فقط من خلال المواقف السياسية، وإنما أيضا من خلال التكيف الفكري المستمر مع المنظومة الغربية عموما وأسس النظام الديمقراطي خصوصا.
وقد ازدادت جرعة البرغماتية بشكل واضح وبوتيرة أسرع مع انتقال حركة النهضة من جماعة سياسية عقائدية إلى حزب مشارك في الحكم، وهو ما جعلها جزءا لا يتجزأ من صانعي السياسات والمحددين الرئيسين لمستقبل العلاقات التونسيين مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية.
وبناء على ذلك كان من الطبيعي أن تتخلى الحركة عن أحد الذين دعمت ترشيحهم في حكومة الشاهد.
فعلا، مهمة الوزير ليست من المهام السهلة، رغم أن الذين يتسابقون في سبيل الحصول على حقيبة في أي حكومة عددهم لا يحصى.
وإذا كانت هذه الظاهرة معروفة منذ العهد السابق، إلا أنها بعد الثورة أصبحت أكثر اتساعا نظرا لانتقال البلاد من نظام الحزب الواحد إلى نظام تعدد الأحزاب.
إذ بالإضافة إلى أن لكل حزب مرشحيه، هناك جيش من الراغبين في أن يدعوهم الناس "معالي الوزير" يتحركون كلما حصل شغور أو نادى مناد إلى القيام بتغيير الحكومة.
والكثير منهم أصبحوا مضطرين لاسترضاء حتى من كانوا خصوما لهم، وهو ما يجعلهم يطرقون على سبيل المثال أبواب راشد الغنوشي حتى لو كانوا من أعدائه السياسيين والأيديولوجيين. فتلك جزء من فاتورة التدرب على التكيف مع مقتضيات النظام التعددي.
ولكن نظرا لغياب التقاليد الضرورية في هذا الشأن، وعدم توفر المؤهلات السياسية أو الخبرات الضرورية فقد حصل أن عديد الوزراء فقدوا مصداقيتهم منذ الشهر الأول من الاختبار، والعديد منهم لم يتركوا أي بصمة وراءهم.
ويكفي الإشارة إلى أن معظم الذين تعاقبوا على هذه الوزارة اليتيمة والمنهوكة ونقصد "وزارة الشؤون الدينية" التي منذ أن أحدثها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي لدوافع سياسية، وهي إلى الآن تفتقر للوظيفة والمضمون، وفي كل مرة تحصل انتكاسة ويذهب الوزير ليبقى الوضع الديني داخل هذه الوزارة وخارجها مزريا وفقيرا.