أعلن القادة المؤسسون للجمهورية التركية أن الغرب هو وجهة هذه الدولة الوليدة، وسنُّوا قوانين عديدة في إطار تغريب الدولة والمجتمع. وكامتداد لهذا التوجه، بدأت مسيرة تركيا نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في 31 يوليو / تموز 1959 إثر تقديم أنقرة طلب الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة. ومنذ ذلك الحين، تسارعت خطوات تركيا أحيانا في طريق الانضمام إلى الأسرة الأوروبية وتباطأت أو توقفت أحيانا أخرى.
علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي تشهد هذه الأيام أزمة بسبب انحياز الدول الأوروبية إلى منظمات إرهابية تستهدف أمن تركيا واستقرارها، كمنظمة حزب العمال الكردستاني وتنظيم الكيان الموازي، واحتضان العواصم الأوروبية قادة تلك المنظمات وعناصرها وسماحها لهم بإقامة فعاليات ضد تركيا، بالإضافة إلى تصريحات مسؤولين أوروبيين جن جنونهم بعد فشل محاولة الانقلاب في تركيا واعتقال رؤساء بلديات ونواب منتمين إلى حزب الشعوب الديمقراطي لعلاقاتهم بحزب العمال الكردستاني وتورطهم في دعم أعماله الإرهابية.
تركيا استفادت من مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقطعت شوطا كبيرا في إجراء الإصلاحات الديمقراطية وتحقيق معايير كوبنهاغن، كما أن وضعها الاقتصادي اليوم أفضل من بعض الدول الأعضاء للاتحاد. ومع ذلك، ما زال الاتحاد الأوروبي يمارس سياسة المماطلة لتجعل تركيا تنتظر أمام أبواب أوروبا وتأمل بأن تدخل من تلك الأبواب يوما ما لتكون أحد أعضاء النادي الأوروبي.
الاتحاد الأوروبي له معايير للانضمام، إلا أن تلك المعايير لا يتم تطبيقها على جميع الدول بذات الصرامة، بل يتم التعامل مع الدول المتقدمة للعضوية حسب حجم كل دولة وعدد سكانها، بالإضافة إلى ديانة الغالبية في تلك الدولة، في ظل النقاش الدائر حول هوية الاتحاد الأوروبي، وهل هو نادٍ مسيحي أم لا، الأمر الذي يجعل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أكثر تعقيدا، لأن انضمامها سيقلب التوازنات داخل الاتحاد، نظرا لعدد سكانها وديانة غالبية مواطنيها.
سياسة المماطلة التي يمارسها الاتحاد الأوروبي في ملف عضوية تركيا تثير في الشارع التركي تساؤلات حول جدوى الانتظار أمام أبواب أوروبا، وتدفع الأتراك إلى مراجعة رغبتهم في انضمام بلادهم إلى الاتحاد. بالإضافة إلى ذلك، يطلق مسؤولون أوروبيون بين الحين والآخر تصريحات مستفزة تنتقد الحكومة التركية وتتوعدها بالويل والثبور وقطع محادثات انضمام تركيا إلى الاتحاد.
رئيس البرلمان الأوروبي، مارتن شولتز، من أبرز المسؤولين الأوروبيين الذين يطلقون تصريحات تهدد تركيا. وفي آخر تصريحاته تلك، قال شولتز إن من واجب الاتحاد الأوروبي التفكير في تدابير اقتصادية يمكن اتخاذها ضد تركيا في حال استمر اعتقال نواب معارضين وصحفيين، مجددا رفض الاتحاد الأوروبي إعادة عقوبة الإعدام في تركيا. ولكن رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان رد على هذا التهديد بتحدٍ واضح ولهجة شديدة، وقال لرئيس البرلمان الأوروبي: "انظر إليّ أيها الوقح! من أنت؟ أنت لا شيء سوى رئيس برلمان هناك.. من أنت؟ ومنذ متى لديك السلطة لتقرر باسم تركيا؟"، مؤكدا أن الشعب التركي "يتخذ قراراته بنفسه ويقطع حبله السري بنفسه".
أردوغان في تلك الكلمة أعلن أن تركيا قد تجري استفتاء شعبيا في العام المقبل على مواصلة محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مشددا على أن بروكسل ينبغي أن تحسم أمرها بشأن انضمام تركيا. وفي موقف مؤيد لرد أردوغان على شولتز، أكد رئيس حزب الحركة القومية المعارض، دولت باهتشلي أن تركيا ليست بحاجة إلى أحد، منتقدا انحياز الاتحاد الأوروبي إلى حزب العمال الكردستاني.
هذه الأزمة الأخيرة طرحت السؤال الذي يتم النقاش حوله منذ سنوات، وهو: "من الذي يحتاج إلى الآخر أكثر: الاتحاد الأوروبي أم تركيا؟" ويرى كثير من المحللين الأتراك أن تركيا اليوم أقوى وأكثر تطورا من ذي قبل، وليست مضطرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بعد التقدم الكبير الذي حققته في مختلف المجالات، بل الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة إلى تركيا لمنع تدفق اللاجئين الذي قد يؤدي إلى انهيار الاتحاد برمته، كما يرون أن الاتحاد الأوروبي اليوم في وضع لا يحسد عليه، بعد تصويت الشعب البريطاني لصالح خروج بلادهم من الاتحاد، وظهور بوادر التفكك، وانتخاب دونالد ترامب الذي يقلق عددا من الدول الأوروبية رئيسا للولايات المتحدة. وبالتالي، يحتاج إلى تركيا أكثر من حاجة الأخيرة إلى الاتحاد. ولذلك نسمع من بعض المسؤولين الأوروبيين تصريحات أكثر عقلانية من التصريحات المستفزة التي يطلقها أمثال شولتز، لأنهم يدركون جيدا مدى أهمية تركيا لأمن أوروبا واستقرارها.
وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، عقب اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي الذي عقد الاثنين في العاصمة البلجيكية بروكسل للنظر في ملف مواصلة المحادثات مع تركيا بشأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، صرح بأن تركيا تعرضت لمحاولة انقلاب فاشلة، مؤكدا أن من حق أنقرة أخذ كافة التدابير اللازمة للحيلولة دون وقوع مثل هذه الأحداث في المستقبل. وأضاف جونسون أنه من الخطأ زيادة الضغط على أنقرة في مسألة اعتقال عدد من نواب حزب الشعوب الديمقراطي على خلفية قضايا تتعلق بالإرهاب. وأما وزير الخارجية الهنغاري، بيتر سزيجارتو، فدعا في تصريحاته على هامش ذات الاجتماع، إلى ضرورة مراعاة الاتحاد الأوروبي أن أمنه مرتبط بأمن تركيا واستقرارها، وطالب الاتحاد بتجنب تصعيد مواقفه تجاه تركيا وتوخي الحذر لدى توجيه انتقاداته ضد أنقرة. ومما لا شك فيه أن هذه التصريحات تعزز رأي القائلين بأن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تركيا أكثر من حاجة تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
* كاتب تركي