تتحدث "
بسمة البلعي" في حضرة هيئة الحقيقة والكرامة
التونسية، بل تتحدث تونس عن نفسها وتاريخها الحديث، بلغة مليئة بالدمع والدماء والحسرة والأحلام المستباحة كأجساد السيدات في أقبية سجون الاستبداد العربي. تتحدث بسمة لنصف ساعة دون أن تتلعثم أو تخطئ في سرد روايتها أمام الملايين، فالرواية هي، وهي الرواية، وهي تونس أو العروبة التي حبستها "الدولة الوطنية" في أقبية الجلادين الغلاظ المهووسين.
كان يكفي أن تنظر لتعابير وجهها دون أن تسمع الكلام، أو تتابعها بما يسعفك من معرفة بسيطة في فهم اللهجة التونسية لتدرك حجم الجريمة التي كانت ترتكب "هناك".. "في ذلك الوقت"، وكان يكفي أن تسرح في مخيلتك قليلا، أثناء الاستماع لها، تجاه
مصر أو
سوريا أو فلسطين أو اليمن أو العراق أو غيرها من الدول العربية، لتدرك أن الجريمة نفسها ترتكب "الآن.. هنا"، وبصخب أكبر، ووقاحة أكبر، وبسادية "جمعية" أكبر.
في روايتها- رواية تونس- لا تزال بسمة البلعي عاجزة عن فهم ما حدث، كما كانت قبل تسعة وعشرين سنة، حينما ظنت أنها "تعمل حاجة باهية للبلاد" من خلال المشاركة في العمل الخيري، ولكن "الحاجة الباهية" تلك أوصلتها إلى "سجن فرقة نابل"، وأوصلت مستقبلها إلى نهايته، وأوصلت عائلتها إلى مأساة تصلح أن تكتب في القصص الشعبية الرهيبة، في متوالية من الألم الذي انتهى بعضه بموت أصحابه، بينما ظل بعضه حيا في الندوب الباقية على أجساد ضحاياه والمعشعشة في عقولهم وقلوبهم أيضا.
وفي سجن نابل، كما في سجون عربية أخرى، تتوقف الأرض عن الدوران، وتغيب الشمس في جميع شهور السنة، ويعدم الأمل، ويتأبد الألم، وتتساقط أوراق الشجر في عز أشهر الربيع، ويتوارى الندى خجلا من الفضيحة، وتسوّد الغيوم في صيف حزيران القائظ أمام الصمت الذي يشبه التواطؤ من الآخرين، أولئك الذين يلوذون بسجونهم الخاصة، خوفا من أن تطالهم سجون السجانين القتلة.
أبكت شهادة بسمة البلعي كل من سمعها، ولكنها لم تبك هي كثيرا، فهي كما قالت "بكت برشة" في حياتها، في السجن وبعد الخروج منه، حتى أصبح البكاء عادة يومية، فإذا أنستها الأيام حسرتها على أبيها الذي نكل به في السجن أمام ابنته، تذكرت أختها الصغيرة التي دفعت ثمن سجنها، وإذا غابت أختها عن ذهنها الذي لا يزال محبوسا في نابل، أطلت صورة أمها التي أصيبت بالجلطة جراء ما عانته العائلة في تلك الفترة، وإذا نسيت عائلتها بكل تفاصيلها المؤلمة، فكيف لها أن تنسى حرمانها حتى من حلمها البسيط كأي فتاة عادية: "لم أكن أحلم بالزواج بل بالسفساري الذي كنت ألبسه لعشر سنوات أثناء إجباري على التوقيع يوميا في مركز الأمن".
حين تستمع لشهادة بسمة البلعي وغيرها من ضحايا الاستبداد في فترة حكم بورقيبة وبن علي؛ تشعر بأنك جزء من جريمة الصمت على مذبحة طالت جيلا كاملا من تونس والدول العربية الأخرى، وتتألم من إحساسك بالذنب لأنك لم تفعل ما يمكنك أن تفعله لكي توقف الجريمة، أو على الأقل لم تصرخ لإيقافها، تشعر بثقل التاريخ يكبل روحك، وتحس بجفاف غريب يحول قلبك إلى صحراء لا يمكن أن يتحول سرابها إلى ماء إلا إذا نال الضحايا حقهم، وحوسب الجلادون على جرائمهم.
بسمة البلعي كانت نبيلة في شهادتها كما كانت نبيلة في حزنها الخالد، حينما تذكرت أن أكبر حسراتها هو امتناعها عن تقديم ماء الشرب لأحد ضحايا التعذيب في نفس السجن وهو الشهيد "رشيد الشماخي" الذي توسل لها أن تقدم له شربة ماء ولكنها امتنعت عن ذلك خوفا من عقاب السجانين، وحينما تحدثت عن حسرتها تلك كانت صادقة، لدرجة أنك تتحسس جفافا في ريقك أمام صورة الشماخي المحروم من حقه بالماء، وأمام صوت بسمة التي منعها الخوف من ممارسة إنسانيتها الضاربة في عروقها، كما تضرب جذور الزيتون في جبال تونس الخضراء.
ثلاثون عاما لم تتمكن خلالها بسمة أن تنسى دم "فيصل بركات" الذي قتل تحت التعذيب وأجبرت على غسل دمائه مع إحدى رفيقاتها في السجن، كانت تنظر إلى يديها أثناء تقديم الشهادة وكأن الدماء لا تزال تقطر منها حتى الآن، فجعلتنا نتحسس أيدينا نحن أيضا لنمسح ما علق فيها من دماء جرت وتجري حولنا دون أن نفعل شيئا لوقفها.
شهادة بسمة العلي ورفاقها ورفيقاتها ليست مجرد صرخة أو نفثة تطلق لإزاحة حمل ثقيل عن قلوب الضحايا الذين يحتاجون للبوح، بل هي أيضا نداء لنا جميعا لأن نفعل ما نستطيع، حتى نوقف الجريمة التي تتعرض لها "بسمة" المصرية أو السورية أو العربية، في "سجن نابل" ما، الآن .. وهنا!
لمشاهدة شهادة بسمة البلعي أمام هيئة الحقيقة والكرامة في تونس إضغط
هنا