تصدير:ينبغي أن نجعل القمع أشد قمعا بأن نضيف إليه وعي القمع (كارل ماركس)
شهدت
تونس في الأيام الفارطة حدثا وطنيا مهما تمثل في البدء في جلسات الاستماع، التي تعقدها هيئة
الحقيقة والكرامة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان منذ بناء ما سِمّي مجازا بـ"الدولة الوطنية". ورغم تأخر جلسات الاستماع التي كان من المفترض أن تكون من أولويات حكومة الترويكا في إطار القطع مع المنظومة القديمة، ورغم ضبابية المشهد بسبب ضعف الاسترتيجية الإعلامية لهيئة الحقيقة والكرامة، فإن جلسات الاستماع قد مثّلت حدثا مفصليا يحتاج إلى قراءة تتجاوز الاصطفافات الإيديولوجية المهيمنة على المواقف من هيئة الحقيقة والكرامة ذاتها، وخاصة المواقف المتضاربة من رئيستها المناضلة الحقوقية سهام بن سدرين. وسنحاول في هذا المقال أن ننطلق من قولة ماركس الشهيرة لنتساءل عن دور "الوعي بالقمع" في تحقيق المصالحة مع الدولة ومع "منظومة التعذيب" من جهة أولى، وفي تحقيق المصالحة بين التونسيين في ظل هذا السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي المأزوم والهش من جهة ثانية.
مهما كان تفسيرنا للتعثر الحاصل في مسار العدالة الانتقاليه، ومهما كان تقييمنا لعمل أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة ومدى مهنيتهم أو استقلاليتهم عن الفاعلين السياسيين، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنّ الجلسات الأولى كانت جلسات "وطنية " من جهة تمثيلية ضحايا "إرهاب الدولة" لأهم العائلات الإيديولوجية، ولأشرس لحظات اشتغال آلة القمع ومنظومات التعذيب المتعاقبة على حكم تونس منذ الستينيات من القرن الماضي. ولكنّ جلسات الاستماع لم تكن "وطنية" من جهة غياب الرئاسات الثلاث عنها. وهو غياب يعكس-من جهة أولى- السلوك الصدامي الغالب على ممثلي "نداء تونس" تجاه عمل الهيئة حتى قبل تشكلها، كما يعكس من جهة ثانية المخاوف العميقة التي تسكن مؤسس هذا الحزب من فتح ملفات ستطعن بالضرورة في أسس شرعيته باعتباره القاطرة السياسية التي أرجعت المنظومة الدستورية-التجمعية-، التي هي موضع مساءلة سياسية وأخلاقية وقانونية في جلسات الاستماع- إلى مركز السلطة.
حتى لو أعرضنا عن الانتقادات التي يوجّهها الكثير من الأصوات المتحزبة وغير المتحزبة لهيئة الحقيقة والكرامة، فإننا سنجد أنفسنا مجبرين على التساؤل حول قيمة جلسات الاستماع في ظل سياق وطني مصطبغ بالانقسام الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين، وفي ظل التعطيل المتعمد من طرف الأجهزة الرسمية للهيئات الدستورية والقانونية، التي من المفترض أن تساهم في تفكيك منظومة الفساد والاستبداد. فجميع مظاهر انتهاك حقوق الإنسان ليست إلاّ جزءا من تلك المنظومة ولا معنى لمقاربتها في ظل غياب مقاربة إصلاحية شاملة. ولذلك فإنّ التناقض الأساسي الذي سنجد أنفسنا أمامه هو التالي: كيف يمكن محاربة منظومة الاستبداد والفساد في ظل نظام ينتمي أغلب المهيمنين عليه (في مؤسسات الدولة وفي امتداداتها الوظيفية) إلي تلك المنظومة، أي هل يمكننا أن ننتظر ممن جاء إلى السلطة بالمال السياسي الفاسد، وبفضل الشبكات الجهوية والزبونية المهيمنة على السلطة والثروات المادية والرمزية زمن المخلوع، أن يمارس نوعا من التدمير الذاتي أو الانتحار السياسي بتفكيك بنية تسلطية لا يستطيع أن يحكم خارجها؟
يمكن لمن تابع جلسات الاستماع التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة أن يلاحظ أمرين مهمين في مستوى الرسائل السياسية وفي مستوى السقف الذي تتحرك تحته أعمال الهيئة: الأمر الأول هو أنّ الشهادات التي اختارتها الهيئة لم تكن معبّرة عن التجارب القصوى في مواجهة "إرهاب الدولة". فلم يكن سامي براهم أو جلبار نقاش مثلا أكثر الإسلاميين واليساريين تعرُّضا لعسف الدولة رغم عمق مأساتيهما. أمّا الأمر الثاني فهو غلبة الخطاب التصالحي وضمور خطاب المحاسبة في أغلب الشهادات. وإذا ما جمعنا بين المعطيين السابقين، فإننا نستطيع أن نفترض أنّ "مضمون" جلسات الاستماع كان نتيجة توافقات سابقة بين الهيئة والعديد من الجهات النافذة داخل السلطة وعلى هامشها، وهي توافقات تسعى إلى تحريك الركود المعمم اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، كما تسعى إلى التنفيس قليلا من الاحتقان الاجتماعي ومن الشعور بالإحباط من سياسات الطبقة السياسية بسلطتها ومعارضتها، وليس أفضل لتحقيق ذلك التنفيس من الحديث عن النظام القديم وبشاعاته. إنها الطريقة الأقل كلفة ليُثمّن المواطنون"النعمة" التي يحيون فيها "الآن-وهنا" رغم بؤس النظام وإفلاسه، أو لنقل إنها ثقافة "الحد الأدنى" في تجليها المرتبط"صوريا" باستحقاقات الثورة.