منذ انطلاق عمل حكومة الوحدة الوطنية تنبأ كثيرون بشتاء ساخن لما يتوفر من الأسباب والمعطيات التي تمهد لذلك.
ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، ومسار سياسي يتقدم ولكن بخطى ثقيلة ومتعثرة أحيانا.
على غرار مشروع قانون المالية الذي أثار جدلا واسعا وأحدث شرخا بين الحكومة وعديد القطاعات، تسببت نتائج الحكم القضائي في قضية مقتل لطفي نقض (أحد مناضلي حركة نداء
تونس) في بعض التجاذبات والتشنجات بين مرحّب بالحكم ورافض له.
في مقابل ذلك وبعد انتخاب المجلس الأعلى للقضاء، استطاعت تونس أن تقدم رسالة إيجابية جديدة في علاقة بتجربتها الديمقراطية الناشئة عبر عقد هيئة الحقيقة والكرامة جلسات استماع علنية لبعض ضحايا التعذيب والاستبداد كحلقة من حلقات العدالة الانتقالية.
يتأكد لنا كل يوم أن هذا الوطن محظوظ، ففي كل مرّة يقارب المشهد على الانسداد إلا وتتفتح مخارج جديدة تبعث بالأمل والحياة في قلوب الناس.
إن أهميّة الشهادات التي أدلى بها بعض مناضلي الديكتاتورية تكمن في مساهمتها في إعادة ترتيب وتشكيل ذهنية المتابعين وجزء مهم من الرأي العام. شهادات وروايات ترد الاعتبار لمنظومة
القيم كالكرامة والحرية والمواطنة على حساب النزعة البراقماتية المشطة والعصبيات القطاعية والفئوية التي أصبحت تشكل تهديدا للمصالح الوطنية العليا.
كما مثّلت الجائزة الدولية (جمنالال بجاج) لنشر القيم الغاندية خارج الهند التي تحصل عليها الشيخ راشد الغنوشي دافعا آخر للنموذج التونسي ودليلا على إشعاع هذه التجربة رغم تعثراتها، وهي اعتراف بدور زعيم حركة
النهضة في تحقيق الاستقرار والسّلام التونسي.
إن منظومة القيم هي أفضل سلاح يمكن أن تواجه به الدولة التونسية كل الصعوبات والتحديات الراهنة على جميع الأصعدة. فبالعمل والمسؤولية وروح المواطنة يمكن التغلّب على الفساد، بالحرية والكرامة يمكن التغلّب على اليأس و بالثقة والصدق يمكن بناء مستقبل أفضل لتونس.
لا نستثني الحكومة وطاقمها في تبني هذه القيم وأن تكون مثالا في تجسيدها عبر برامج وخطط العمل الوزارية والإدارية، وذلك كفيل بأن يجدّد معاني التضحية من أجل الوطن وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة والتوحد لمجابهة الأخطار.
والقيم إذا سقطت في مجتمع أو انهارت انهار المجتمع، مهما اكتسب من عناصر القوة والنجاح، وبذلك فسر ابن خلدون رحمه الله المراحل التي تمر بها الدول والتغيرات التي تنتهي إليها المجتمعات.
القيم في النّهضة اليابانية
ما الذي فعله إنسان اليابان لتخطي خسارة الحرب؟ وكيف وضع نفسه على الطريق لكي يجعل من اليابان واحدة من أكبر ثلاث قوى اقتصادية في عالمنا المعاصر؟
إن هذا الإنسان لم يغب عن باله أن أكثر من مئة مليون من الناس يجب أن يعيشوا في رقعة من الأرض لا تتجاوز مساحتها الـ380 ألف كيلو متر مربع تغطي الجبال البركانية نحو 85% منها، هذا مع غياب شبه كامل لأي نوع من الثروات والموارد الطبيعية.
وقبل ذلك، ومنذ تولي الإمبراطور ميجي مقاليد الحكم بمساعدة رجال الساموراي عام 1867م، كان التصور أن حل المشكلة القومية لليابان هو التحديث، بأن تصبح اليابان دولة عصرية قوية تدخل في المجال الصناعي بكل قوة، ولا بد لها من فتح الأسواق الخارجية بالقوة، والحل يكمن في التوسع الأفقي على حساب الجيران، حيث القوة العسكرية هي المفتاح لتحقيق هذا التوسع.
وهكذا انتصر الجيش الياباني في حربه مع الصين عام 1895م، ثم انتصر على روسيا عام 1905م، ثم على كوريا عام 1910م، ثم دخلت اليابان الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية لتستولي على الهند الصينية والفلبين والملايو وسنغافورة وبورما وتايلاند. ولكن هذا كله لم يوصل إلا إلى الاستسلام غير المشروط عام 1945م، والذي كان البديل الطبيعي له الانتحار القومي لليابان بأسرها.
من هنا انتهى إنسان اليابان، إلى البحث عن طريق آخر وقرار جديد، وكان أساس هذا القرار الجديد أن الحل يقع داخل حدود اليابان، وأنه مرتبط بالإنسان الياباني وبالعقل الياباني. ومن هنا جاء دور النظام التعليمي في اليابان لكي يأخذ القرار القومي ويصبه بكل قوة في عقل إنسان اليابان الجديد، ومن ثم انتهى إنسان اليابان بعد الحرب العالمية الثانية إلى أن القرار القومي يكون بالتوسع الرأسي من خلال إنسان اليابان وعقله، وليس بالتوسع الأفقي.
من أبرز عوامل النهضة اليابانية بعد انهيار الاقتصاد الياباني عقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية ما عُرف «بالإدارة اليابانية»، بمعنى تطبيق مبادئ إدارية حديثة من بينها إدارة الجودة الكاملة، والعمل ضمن فريق عمل «روح الفريق»، وإتقان العمل الإداري وتحويله إلى قيمة اجتماعية مرتبطة بالثقافة اليابانية، والابتكار والتطوير، إلى غير ذلك من المبادئ والمفاهيم الإدارية الفعالة.
ثم من هذه العوامل انضباط الشخصية اليابانية التي تقدس الوقت، وتحترم النظام، وتبدع ضمن الفريق الواحد، وتلتزم وبشدة بآداب التعامل، ولها أخلاقيات رفيعة في المتاجرة موصوفة بالصدق والأمانة. وهذه الأخلاقيات نابعة من الاهتمام بالبرامج التعليمية المتعلقة بالأخلاقيات وسلوك المواطن، منذ الصغر في البيت والمجتمع والمدرسة.
إنما الامم أخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا..