حين رفض المنصف باي طلب روزفيلت

تولى المنصف باي العرش في جوان 1942 خلال الحرب العالمية الثانية، بعد هزيمة الفرنسيين أمام الألمان، الذي قلّص من هيمنة المستعمر الفرنسي العاجز عن حماية نفسه.

كان المنصف الباي حاكما وطنيا بامتياز مما جعله استثناء في حكم الحسينيين الذي دام حولي القرنين ونصف، ولذلك أيضا لم يستطع البقاء على عرشه أكثر من سنة.

حين تولّى "سيدي" المنصف باي الحكم لم يعبّر عن صدّه للمقيم العام وللسلطات الفرنسية من خلفه ولكن ما لبث أن وجّه مذكّرة للحكومة الفرنسية تتضمّن 16 نقطة أهمّها:

1. المساواة في المرتبات والأجور بين الموظفين التونسيين والفرنسيين.

2. مشاركة التونسيين في مراقبة مداخيل ومصاريف الميزانية.

3. إلغاء المرسوم 1898 المتعلق بأراضي الأوقاف وحذف كل العقبات التي تمنع التونسيين من امتلاك أراض ريفية.

4. مشاركة السكان التونسيين بصورة فعلية في الحياة البلدية.

5. جعل التعليم إجباريا بالنسبة لجميع التونسيين مع تدريس اللغة العربية في كل المدارس.

لفتت هذه المطالب أنظار المستعمر وأكّدت له أنّ هذا الباي ليس على خطى سابقيه وأنّه حامل لمشروع وطني إصلاحي خاصّة أنّه أتبع هذه الرسالة بتشكيل حكومة تونسيّة دون استشارة السلطات الفرنسيّة، وهو ما اعتبره الفرنسيون شكلا من أشكال التمرّد.

كما كان له موقف حاسم تجاه الإجراءات العنصرية التي أرادت الإقامة العامة الفرنسية فرضها على اليهود التونسيين، بوضع نجمة صفراء لتمييزهم عن بقية السكان، فما كان منه إلا أن أجاب بأن اليهود مثلهم مثل كلّ المواطنين التونسيين المسلمين.

تميّز المنصف باي بحركيّته والتصاقه بالشّعب على خلاف سابقيه من البايات، سعيا منه لإحياء الشخصيّة التونسيّة كما كان يقول. وفي قرار رمزي منه ألغى عادة تقبيل اليد وعوّضها بالمصافحة، بما يؤكّد تواضع الرّجل واحترامه لشعبه.

في ديسمبر 1942 استغلّ المنصف باي لقاء السفير الألماني بتونس وطلب منه التدخل للإعفاء عن زعماء الحزب الدستوري الجديد القابعين بالسجن وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة، ثمّ قام باستقبالهم رسميّا بعد الإفراج عنهم.

كانت فترة حكم المنصف باي صعبة بحكم تواجد كل من القوى الفرنسية والألمانيّة في تونس إلى جانب احتدام الصراع العالمي بين قوات المحور والحلفاء، إلاّ أنّه كان من أنصار الحياد وعدم الانحياز لأي طرف.

ولعلّ من أهمّ وأصعب القرارات التي اتخذها الباي فترة توليه العرش رفضه طلب الرئيس الأمريكي "فرانكلين روزفيلت" في السماح لقواته وقوات حلفائه في التنقل داخل تونس للقضاء على قوات المحور في شمال إفريقيا، رغم أنّها المرّة الأولى منذ الاستعمار التي يُعامل فيها الباي كرئيس للدولة خاصّة من طرف قوة عظمى في العالم.

أجاب محمد المنصف الباي على رسالة روزفيلت قائلا:

"سيدي الرئيس انطلاقا من المسؤولية الملقاة على عاتقنا وحرصا منا على الحفاظ على نفس المسافة من مختلف الفرقاء، نرجو أن تبقى بلانا خارج هذا الصراع". 

كلّ هذه المواقف الوطنيّة والشجاعة التي اتخذها الباي جعلت القوات الإنجليزية تداهم قصره بحمّام الأنف في 10 ماي 1943 بعد انتصار قوات الحلفاء على المحور ووقع نفيه إلى الجزائر ثم إلى جنوب فرنسا بعد رفضه التنحي عن الحكم.

ولّدت إهانة الباي تعاطفا كبيرا في صفوف الشعب أنتج ما سمّي بالحركة المنصفيّة التي هدفت لعودة المنصف باي وسياساته. وقد كان الملك المعزول على تواصل مستمر بعديد القيادات ورموز الحركة الوطينة إلى أن لاقى أجله في سبتمبر 1948 بمنفاه.

لقد كان محمد المنصف باي علامة مضيئة في تاريخ تونس بما تمتّع به من خصال الشجاعة والوطنية واحترام الشّعب، ورغم قصر مدة حكمه إلاّ أنّه ترك أثرا مهما في التاريخ السياسي الوطني، كان على الدولة والمهتمين أن يزيحوا عنه الغبار ويبرزوه للعالم.

* رئيس منتدى الفكر السياسي والاقتصادي/تونس