بعد التغيرات الأخيرة على مستوى التحالفات الإقليمية والدولية في المعركة السورية وما تبعها من تغيرات على أرض الميدان، تواتر الحديث دوليا عن كيفية التعامل مع بقايا الإرهابيين المختلفة جنسياتهم والمنتشرين في بؤر التوتر، خاصة بين العراق وسوريا.
من هنا، كان الحديث في تونس عن إمكانية عودة الإرهابيين وأشكال التعاطي مع الملف.
طبعا ملف الإرهاب هو أخطر الملفات وأكثرها حساسية، ما يتطلب الكثير من الدقة والموضوعية في تناوله، خاصة إذا تعلق الأمر بسياسة دولة ومصير مجتمع وشعب.
ورغم حساسية الملف، إلا أنه خضع كغيره من الملفات للحسابات السياسوية والأيديولوجية الضيقة، ومحاولة توظيفه للتموقع السياسي على حساب تشويه المنافسين، وأهمهم حركة النهضة التي كانت صاحبة أهم قرار يتعلق بمكافحة الإرهاب في هذه السنوات، وهو تصنيف أنصار الشريعة تنظيما إرهابيا منذ سنة 2013.
يمكن للفرقاء السياسيين أن يختلفوا ويتعارضوا في عدة مواضيع سياسية أو اقتصادية تنموية أو اجتماعية، ولكن من غير المعقول أن يتحول الربح السياسي الضيق والمؤقت إلى هدف على حساب القضايا الوطنية الكبرى.
حاولت بعض الجهات السياسية والإعلامية في تونس تضخيم الأمر وتحويله إلى فزاعة بما يوحي بأن الآلاف من الإرهابيين يقفون على حدود الوطن يريدون العبور!
ولا يمكن فهم هذا الموقف إلا في إطار سذاجة البعض أو محاولة لاستغلال خوف المواطنين على استقرارهم لتمرير أجندات سياسية قائمة على المغالطات والتشويه.
يتحدث الكاتب زيغمونت بومان في كتابه الأزمنة السائلة في هذا الموضع قائلا:
"في أكتوبر من عام 2004، أذاعت قناة بي بي سي سلسلة وثائقيات تحت عنوان "سلطة الكوابيس: نشأة سياسة الخوف".
وكان آدم كيرتس هو كاتبها ومخرجها، وهو أحد أعظم مخرجي البرامج التليفزيونية الجادة في بريطانيا، وأوضح كيرتس أن الإرهاب العولمي هو بلا شك خطر واقعي للغاية يعاد إنتاجه باستمرار داخل أرض مهجورة في البرية العولمية، لكن جزءا كبيرا من تهديده المعلن من الجهات الرسمية إنما هو وهم يبالغ فيه الساسة ويضخمونه، إنه وهم مظلم انتشر من دون تمحيص...
وليس من الصعب تتبع الأسباب التي أدت إلى الانتشار السريع الكبير لنجاح ذلك الوهم، ففي عصر فقدت فيه الأفكار الكبرى مصداقيتها، يصير الخوف من شبح العدو هو كل ما تبقى للساسة حتى يحافظوا على سلطتهم".
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية لطالما احتاج الساسة إلى إعادة إنتاج صدمة الأبراج المتساقطة في مانهاتن بالتصوير البطيء لشهور متتابعة على ملايين الشاشات حتى يتمكنوا من استغلال القلق الوجودي في خدمة الديباجات والشرعيات السياسية الجديدة.
ليس هذا تهوينا من خطر الإرهاب الذي يمثل آفة حقيقية تتهدد أمن الشعوب والبلدان ولكن يجب التعامل مع هذا الخطر بدقة وعقلانية دون توظيف أو استعمال بوليتيكي يؤدي إلى آثار عكسية.
في هذا الصدد، صرح الأستاذ راشد الغنوشي كغيره من بعض السياسيين والشخصيات الوطنية والإعلامية بأن تونس لن تسعى لعودة الإرهابيين ولكن إذا عادوا لا يمكن منعهم في مقابل انه يجب على الدولة أن تتعامل معهم بما يقتضيه قانون الإرهاب والقيام "بعمليات جراحية" معهم اذا استوجب الأمر، حسب توصيفه.
أرادت بعض الجهات تحريف هذا التصريح وتوظيفه في غير اتجاهه الصحيح استهدافا لحركة النهضة وصورتها في الداخل والخارج.
تصريحات الغنوشي دعمتها تصريحات رسمية للحكومة التونسية ورئاسة الجمهورية لاحقا مؤكدة أيضا على أن تونس دولة عصية على هؤلاء بأجهزتها الأمنية والعسكرية وإرادة شعبها في الحياة.
لا أحد من المواطنين الصادقين يرغب في عودة الإرهابيين ولكن هؤلاء في نفس الوقت يرسمون صورة سيئة عن وطننا وشعبنا أينما حلوا ونزلوا، مما يؤثر سياسيا واقتصاديا في وضعنا الداخلي عبر رفع أو التخلي أو تجنب دعم تجربتنا الديمقراطية الناشئة.
يجب معاقبة هذه الأيدي الدموية بأقصى العقوبات خارج تونس أو داخلها حتى تكون عبرة لغيرها، ولا يحتاج ذلك لبث الرعب في نفوس الناس أو استخدام خوفهم رأسمالا سياسيا أو انتخابيا، بل يجب تعبئة النفوس بحب الحياة والأمل في الحاضر والمستقبل.
لأن أسوء ما نقع فيه أن نحقق أهداف الإرهابيين بأيدينا لا بأيديهم، سواء في زيادة معدلات الخوف المتسرب إلى المجتمع أو تقويض القيم الداعمة للديمقراطية والحريات، بما يفوق ما كان يمكنهم أن يحلموا به.
أما في علاقة بمقاومة هذه الآفة داخليا فيجب الاشتغال على أكثر من بعد خاصة على المستوى الثقافي والتربوي والتعليمي، ثم بتحقيق العدل بين المواطنين والجهات.
يقول المثل: إذا أردت السلام فعليك بالعدالة.
يذكر التاريخ القصة المحزنة للإرهاب في أيرلندا، فقد استمد هذا الإرهاب بقاءه من الاستجابة العسكرية العنيفة التي أبداها البريطانيون، دون غيرها من الحلول.
في حين يمكن ربط الانهيار النهائي لهذا الخطر بالمعجزة الاقتصادية الأيرلندية، التي جعلت الجميع يتوحد ضد الإرهاب، ثم بانتفاء مسببات تشكله أو ما يسمى ظاهرة "تآكل المعدن".
بقدر أهمية قتل الذباب يجب تجفيف المستنقعات..