التجمير عند أهل
تونس هو تسخين أكلة قديمة عند العجز عن طبخة جديدة ويبدو أنه تقليد قديم من زمن الفقر حين استعمل الجمر قبل اكتشاف الموقد الغازي، لكن المسألة اللغوية هنا غير مهمة، بل الأهم أن
الحكومة القائمة على أساس وحدة وطنية عادت تجمّر البايت لشعبها الذي يبحث بين سيقان وزرائها المتزاحمين على بلاتوهات الإعلام عن فجوة ضوء علهم يرون من بين السياق الكثيرة فرجة أمل في التغيير والبدء في طبخة تنموية مجزية لصبرهم الطويل على حكومات مرعوبة من التغيير وتناور بلا برامج.
المرفأ المائي الجاف
منذ بداية الألفية راج حديث كثير عن مرفأ مالي كبير سيبنى في ضاحية تونس ونشرت صور مجسدة للمثال. ثم اختفى المشروع بالتوازي مع الحديث عن مشروع تونس البحيرة الذي سيكون في مدخل العاصمة الجنوبي، ثم ولأسباب كثيرة أهمها الفساد الذي كان يرعاه الرئيس السابق اختفى المشروع.
وفي سنة 2013 قام رئيس حكومة الترويكا حمادي الجبالي بإعادة تدشين مشروع المرفأ المالي، ولم يتجاوز الأمر صور التدشين، وها هي حكومة الشاهد تعود بنا إلى نفس النقطة وتدشن وتبيعنا صور مشروع يبدو أنه لن يرى النور إلا في حفلات التدشين. ومع كل حفل تقدم لنا أرقام
التشغيل المهولة التي سيسمح بها المشروع لنكتشف أن الوعد بالتشغيل حرفة جميلة تتقنها الحكومات أمام الشاشات لكنها لا تمر إلى الواقع ولا نعرف من سيكون رئيس الحكومة القادم الذي سيدشن المرفأ المالي للمرة الرابعة.
هذا هو تجمير البايت الذي تتقنه الحكومات ولم تشذ عنه حكومة الشاهد التي دخلت بوعود مغرية، فلم تكمل مائة يوم حتى عادت إلى الخطط القديمة المستنفذة عبر توزيع الوعود دون أفق تغيير حقيقي.
موازنة قديمة تستنسخ
ينشغل التونسيون هذه الأيام بمناقشة الموازنة وتستحوذ مسألة العدالة الضريبية على الاهتمام الأكبر خاصة ما تحاول الحكومة فرضة من ضريبة على المهن الحرة كالمحاماة والطب الخاص. وهما قطاعان مشغلان وحساسان وفوق ذلك منظمان نقابيا بما حولهما الى لوبيين قويين يمكنهما أن يلويا ذراع الحكومة. وقد فعلا سابقا وربحا الكثير. في الأثناء يغفل المتابعون أمرا مهما أن الموازنة مستنسخة عما سبقها وليس فيها من التجديد شيئا. ولسائل أن يسأل كيف تتجدد الموازنة؟.
كانت الثورة قد طرحت مطالب تجديد كلي للتصرف وخاصة في مسألة اللامركزية الإدارية. وكان من المنتظر أن تعاد صياغة الموازنة على أساس النظام الإداري الجديد لتتصرف المناطق في جزء هام من مواردها وتحتفظ الدولة بالإشراف الفوقي والمراقبة البعدية للصرف ولكن صار هذا المطلب الآن أمنية مستحيلة في ظل التلدد والنكوص عن تطبيق الدستور في الباب السابع منه. تؤجل هذه الحكومة عامدة كل المساعي لتفكيك السلطة المركزية وتعتبر الموازنة إحدى وسائلها القوية للجبر والإخضاع وتكريس انتظارية المناطق بما يعدم كل طموح للمشاركة والاقتراح واستثمار القدرات المحلية الراغبة في إدارة شؤونها بطريقة لامركزية.
تحت مسمى العدالة الضريبية الشكلية تقرر الحكومة طرق الانتزاع وتختصم مع اللوبيات وتسلط الإعلام الموالي لها على كل مخالفيها بنفس طريقة بن علي ومن سبقه فينتشر خطاب التخوين. في حين يتاح لها أن تقترح جباية اجتماعية عبر خلق مناطق امتيازات جبائية للعمل الاجتماعي والاقتصادي. بمنح المناطق صلاحيات تحديد نسب الضريبة بما يحفز على الذهاب اليها وتنميتها. لكن هذا إيذان بنهاية حكم وبداية آخر، ولذلك ها هي تعيد تجمير أساليب تحكم مضت عليها 60 سنة وأثبتت فشلها في الإدارة والتنمية والديمقراطية.
نحن إذن إزاء حكومة مستنسخة كربونيا عمن سبقها وإزاء حلول تولد ميتة لدى بيروقراطية إدارية تعرف أسلوب "نسخ ولصق" على نسخة السنة المنصرمة. لا عجب إذن ولذر رماد على عيون كسولة أن تدشن المرفأ المالي للمرة الثالثة للإيهام بالاستثمار والتشغيل.
مثل حكومتنا كمثل نقابتنا في النسخ والتلصيق
نقابتنا المقدسة هي النسخة الأخرى من أسلوب الحكم والتحكم عبر الاستنساخ. نقابتنا مقبلة في شهر يناير على إنجاز المؤتمر النقابي الذي سيتغير فيه جزء من القيادة في المستوى المركزي (المكتب التنفيذي) وقد جرى الأمر في النقابة أن الأشهر السابقة للمؤتمرات تكون أشهر تصعيد واحتجاج موجّه في الظاهر ضد الحكومة لكنه موجه في الأصل إلى داخل النقابة طبقا لجدول المؤتمرات المحلية ذات الطبيعة الانتخابية فالقطاع الذي يفلح في التصعيد أكثر يعطي الانطباع بأنه الأقدر على نفع منخرطيه. ولم تفلح النقابة أبدا في إعادة قراءة أساليب العمل النقابي التشاركي التي تطورت في بلدان أخرى وصلت النقابات بمقتضاها إلى المشاركة الكاملة في التسيير والمشاركة في النتائج بحسب المرابيح دون تصعيدي كلاسيكي موروث من القرن 19.
نقابتنا تعيش بوعي وأساليب القرن 19 مع جرعة زائدة من خبث الطوية السياسي المستند الى تقاليد اليسار في محاربة الاسلاميين الموجودين في الحكومة، فهي تهدد الآن (يوم 8 -12-2016) بإضراب عام في القطاع العمومي الذي استنزف كل زيادات ممكنة، في حين يخفت صوت النقابة بل يخرس في القطاع الخاص الذي تنحدر أجوره وتنهار مقدراته مع انهيار العملة الوطنية بشكل سيخلق فارقا كبيرا بين منظوري القطاعين.
نحن إذن نقف بين حكومة متخلفة وعاجزة عن التطور بل معادية له، ونقابة ترفض نقد أساليبها ومصرة على التخريب المنهجي للقطاع العمومي رغم أنها ترى الهروب الكبير من أحد أهم القطاعات الذي تحكمت فيها بلا رحمة وهو قطاع التعليم حيث تفتتح كل يوم مدارس خاصة جديدة بكلفة عالية لا تحتملها إلا الطبقات المرفهة التي يمكنها أن تنقذ أولادها من تعليم عام منهار.
العدالة الانتقالية صرخة في وادي الموت
من هذا المنظور الواقعي لا يمكن لفسحة الأمل التي خلقتها جلستا الاستماع أمام هيئة العدالة الانتقالية إلا أن ترتد علينا، فالقوم أجبروا على السماع ضمن خطة ولدتها الثورة لمعالجة الماضي وتجاوزه. لكن الماضي الحقيقي مهمين الآن على أساليب عمل الحكومة ولن يجدي نفعا أن نسمع إلى ضحايا العهد البائد ثم نتدرج في النسيان دون الوصول الى قلب نظام الحكم بطريقة عبقرية ولا أتحدث هنا عن ثورة مسلحة بل عن تغيير عميق في أسلوب الإدارة لخلق تيار من التغيير التحتي قد يبدأ بموازنة محلية تحت رقابة الدولة وقد تطوره النقابة بتغيير وسائلها من الاحتجاج الى التشارك وقد تطوره لوبيات المهن الحرة بابتكار مشاركة ضريبية على قاعدة الوطنية لا بحسابات قطاعية (سكتارية).
هل نتوقف عن الاستماع إلى الضحايا؟ ليس هذا هدف الربط الذي وضعته هنا، بل إن الاستماع سيتحول إلى جلسات تنفيس تنسى بسرعة ما لم يحصل تغيير عميق في عمل الحكومة والنخب التي نجزم أن خوفها من التغيير أكبر من خوف الحكومات التي تعاقبت على البلد بعد الثورة. لقد تحدثنا منذ خمس سنوات عن الثورة لكننا لم ننتبه إلى أن طاحونة الحكم تدور بالماء القديم.
ولم تتغير ولم ننتبه إلى أن تمجيد الإدارة التونسية هو في جوهره دعوة اإيديولوجية للحافظ على الموجود ومكاسب المتنفذين فيه وهذا لعمري ردة عن كل أمل في الثورة. بل هو تجمير دولة باردة لشعب جائع إلى العدالة وعاجز دونها.