أرجعت الأحداث الأخيرة التي شهدتها الساحة السياسية في
تونس موضوع مصير
التوافق السياسي لطاولة النّقاش، خاصّة في ظلّ التوتر العام الذي تعيشه البلاد؛ بسبب التّجاذب الحاد حول قانون الميزانية لسنة 2017.
ومثّلت ردود الفعل التي أثارتها قضيّة القيادي الجهوي لنداء تونس، لطفي نقض، التي حكم فيها القضاء في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم ببراءة المُتّهمين بقتله، اختبارا جديدا لتماسك التوافق السياسي في البلاد، القائم أساسا على التحالف بين حركة النّهضة ونداء تونس.
وكان حزب
نداء تونس عبأ أنصاره من أجل التجمهر أمام المحكمة، بالإضافة إلى حضور شخصيات سياسية داخل قاعة المحكمة، ما اُعتبر مُحاولة للضغط على القضاء.
واجتمعت أغلب قيادات نداء تونس على رفض هذا الحكم القضائي، بل وصل الأمر ببعضهم إلى اتهام الجهاز القضائي بالتواطؤ مع حركة النّهضة، وهو ما اعتبره مُراقبون "عملا عدائيا" في ظل التوافق السياسي الذي يجمع الحزبين.
اقرأ أيضا: حكم بالبراءة يثير ضجّة بين "النهضة" و"نداء تونس"
وفي السياق ذاته، سبّب تباين الآراء والمواقف من جلسات الاستماع لضحايا الانتهاكات والتعذيب في فترة حكم زين العابدين بن علي، ضمن إطار برنامج
العدالة الانتقالية، والتي انطلقت يومي 17 و18 تشرين الثاني/ نوفمبر، موجة من التّلاسن على شبكات التواصل الاجتماعي بين أنصار حزب نداء تونس وأنصار حركة النّهضة، انخرطت فيها قيادات من الحزبين.
البلاد تحتاج التوافق
وفي تعليقه حول هذه الأحداث، قال القيادي بحركة نداء تونس، عبد الرؤوف الخماسي، إن "الشعب التونسي بصدد بناء نظام جديد، ومن الطبيعي أن يكون هناك تباين في ردود الفعل من الجهتين في قضايا تهمّ فئة كبيرة من الشعب التونسي"، وفق تعبيره.
وأضاف الخماسي في تصريح لـ"عربي21": "الوضع بطبيعته هشّ؛ لذلك علينا أن تتّسم مواقفنا بعقلانية ورصانة أكثر، وعدم التراجع عن المسار الذي نحن ماضون فيه؛ تغليب المصلحة العليا للبلاد، رغم أهميّة الموضوعين المذكورين".
وتابع: "التوافق هو سياسة أسّسها الأستاذ الباجي قايد السبسي منذ أن كان رئيسا لنداء تونس؛ للخروج بالبلاد من الوضعية الحرجة التي كانت تمرّ بها تونس، ومن انزلاقات كادت تودي بالبلاد إلى ما لا يحمد عقباه"، مضيفا: "من جهة أخرى، لا بديل للتوافق؛ نظرا للنتائج التي أملتها علينا الانتخابات التشريعية، ونحن اليوم نعيش في حكومة وحدة وطنية أساسها التوافق، وتتطلب منّا العمل سويّا من أجل المصلحة العليا للبلاد".
وحول ما يروج في كواليس الساحة السياسية من كون حركة نداء تونس قد تعود لخطاب النّشأة الأولى، المبني على التّضاد مع حركة النّهضة، خاصّة مع تبنّي محسن مرزوق، وهو أحد المُنشقّين عن نداء تونس، للخطاب ذاته؛ من أجل استهداف القاعدة الانتخابية للنداء، قال الخماسي إن "لكل فترة ومرحلة من تاريخ الدول شعاراتها وبرامجها، ومن يعتقد أنّه بإمكانه إعادة تكوين نسخة مطابقة للأصل من حركة نداء تونس واعتماد التمشي ذاته فهو واهم"، وفق تعبيره.
وقال أيضا: "نداء تونس لم يُبنَ بشعارات مناهضة للنهضة، بل بُني على أساس عدم الإقصاء، وكانت له نقاط اختلافات في التوجه العام لحكومة الترويكا التي كانت تقودها حركة
النهضة مع حزبي المؤتمر والتكتل، وكُوّن حزب حركة نداء تونس لخلق التوازن السياسي في تونس"، على حد قوله.
متمسكون بالتوافق
ورأى سامي الطريقي، عضو مجلس شورى النهضة وعضو مكتبها السياسي، أنه "على العكس، بيّنت الأحداث الأخيرة تماسك التوافق السياسي بين نداء تونس والنهضة، باعتبار أنها لم تُقوّضه"، وفق تعبيره، داعيا قواعد النّهضة لـ"تفهّم ألم نظرائهم في حزب نداء تونس والتفاعل معه إيجابيا".
واعتبر الطّريقي، في تصريحه لـ"عربي21"، أن "جلسات الإنصات لضحايا حقبة الاستبداد لم تمس، وليس لها أن تمس من العلاقات بين الحزبين، فهي ليست متجهة لأي طرف في تونس ما بعد الثورة، بل لتعزيز قيم العدل، وهي قناعة مُشتركة بين الحزبين"، كما قال
وأضاف: "طبعا النهضة متمسكة بالتوافق، وتعتبره مسألة استراتيجية تحتاجها البلاد، وهو الموقف ذاته عند النداء وبالدرجة نفسها".
وشدّد الطريقي على أن التوافق السياسي "موقف وثقافة"، مُشيرا إلى أن "قواعد الحزبين متفّهمة لطبيعة المرحلة".
واعتبر أن "بعض التوتر الذي يُسجّل لدى بعضهم لا يعني هشاشته (التوافق)، بل يعود لطبيعة الملفات مثار الجدل"، وقال إن "التّوجّه العام هو الوعي بضرورة استمرار التوافق لانعكاسه الإيجابي على البلاد"، على حد قوله.
احتياج مُتبادل
وفي تحليله لسلوك قواعد الحزبين في الآونة الأخيرة، قال الباحث والكاتب التونسي، الصغير الشامخ، إن "قواعد كل الأحزاب، خاصّة في ظل التجارب التي تكون فيها جماهير الأحزاب حديثة العهد بحريّة التنظّم، عادة ما يكون سلوكها الافتراضي، وحتى السياسي، مزاجيّا وعاطفيّا؛ فإمّا أن تغيب عنه إكراهات السياسة، ليتناقض مع موقف القيادة، أو تسيطر عليه توجيهات القيادة، فيكون أقرب إلى تبرير خيارات القيادة".
وأضاف لـ"عربي21": "في قضيّة الحال، السلوك الصادر عن قواعد الحزبين يتماهى تقريبا مع طبيعة المشهد الانفعالي داخل هذا الفضاء السبراني (على الإنترنت)، حيث تكون الحروب الافتراضيّة قائمة لرسم حدود التمايز والتناقض بين مختلف المجموعات أو التنظيمات".
وقال الشامخ في حديثه لـ"عربي21": "التوافق السياسي هو فضاء مصلحة سياسية وحزبيّة مشتركة بين النداء والنهضة، وهذا ما يحدث عندما تلتجئ أطراف الصراع إلى البحث عن منطقة وسط تضمن وجودا لكل الأطراف بديلا عن التنافي والنزاع، خاصة في غياب قوى أخرى من شأنها أن تفرض التوازن"، وفق تعبيره.
وتابع: "التوافق بين حركة النهضة ونداء تونس هو توافق يضمن وجودا مشتركا للحزب صاحب الحجم والجسم الانتخابي الأقوى (النهضة)، والحزب صاحب الحجم السياسي والمالي والإعلامي الأقوى (النداء). وهذا التوازن أو التوافق سيخضع حتما لمنطق التغيّر في صورة تراجع حجم أحد الطرفين، وبالتالي لا يمكن اعتبار قضيّة لطفي نقّض موضوعا مؤثرا، بقدر ما ستؤثر على مكونات التوافق طبيعة التركيبة القادمة والتوازنات الجديدة التي ستنتجها الحركيّة الحزبية والسياسيّة الخاضعة لمتغيرات متسارعة".
وأكّد الشامخ أن نداء تونس "في ظل أزمته الحاليّة ليس من مصلحته أن يشهر التناقض والصدام مع حركة النهضة، ليس فقط لكونه يعيش أزمة وحالة تفكّك داخلي، بل لأنّ جزءا كبيرا من مقومات قوته ووجوده حاليا في السلطة مستمدّ من دعم حركة النهضة"، وفق تحليله.