إذا كانت الجمهورية ارتبطت بالجماهير والديمقراطية فإن الديمقراطية قد ارتبطت أكثر بالمال والإعلام، وما يمثله الاثنان في دنيا الهيمنة والسيطرة والتلاعب بالعقول، وهو ما يجعل البشرية على نصل سكين حاد في ما يتعلق بمعضلة السلطة والإنسان، خاصة ونحن نرى كيف يمارس التضليل والتلاعب بالعقول عبر الإعلام بكل أدواته والقصة في النهاية قصة إنسان يتكون لديه وعي عن طريق رسائل مكررة تحمل فكرة مكررة ويتكرر ذلك كل يوم مع لبن الصباح وشاي المساء كما يقولون. الديمقراطية والانتخاب والجمهورية ما هي إلا محصلة صوت هذا الإنسان مضروبا في ملايين، ما يضع الإنسانية كلها أمام محك السؤال الأخطر إن لم يكن الأسوأ، عن ما جدوى هذه الديمقراطية التي تصنع لنا كل يوم جمهوريات الخوف والخداع.
والجمهورية حلم قديم للبشر تحدث عنه الكثير من الفلاسفة والمفكرين أشهرهم بالطبع أفلاطون الذي تحدث في جمهوريته الشهيرة 380 ق.م عن العدالة والنظام والدولة العادلة والإنسان العادل لكنها تبقى ذات طابع طبقي بعيد عن اللٌحمة الإنسانية الطبيعية بما تحمله من رحمة وحب وإيثار وإيمان.
أما الجمهورية التي أعنيها هنا فهي
جمهورية الفارابي التي تحدث عنها في كتابها لشهير "آراء أهل المدينة الفاضلة" والتي تأثرت رؤيته فيها بعض الشيء بـ"جمهوريه أفلاطون"، على أية حال فإن ما ذكره الفارابي عن شروط الرئاسة التي ينبغي توفرها في شخص من يتولى الرئاسة وإدارة شؤون الأوطان جديرة بالتأمل.
و تمضى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ** فإن تولت فبالأشرار تنقادُ
يرى الفارابي أن الرئاسة والقيادة في هذه الجمهورية يجب أن تستند إلى صفتين على درجه عالية من الأهمية والضرورة وهما الطبع والخبرة. أي أن يكون الرئيس بطبعه به صفات القيادة عن طريق قوة فطرية قاطنة فيه، وأن يكون صاحب خبره طويلة في التجارب الحياتية والاجتماعية والعلم والمعرفة، ومن خلال ذلك وضع عدة صفات لا غنى عنها في شخصية الرئيس حتى يكون أهلا للحكم وهي:
* أن يكون سليم الحواس والأعضاء.
* أن يكون جيد الفهم والتصور والحفظ لما يراه ويسمعه، ذكيا فطنا إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة التي دل عليها الدليل، وهذه الصفات لا شك أنها تعرف عن الإنسان من خلال المواقف المتراكمة التي يتفاعل فيها مع من حوله فتتكون لديهم سيرته وسمعته التي يشتهر بها.
* أن يكون حسن العبارة يواتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره إبانة تامة.
* أن يكون محبا للعلم والعلماء.
* أن يكون غير شره للملذات الدنيوية.
* أن يكون محبا للصدق والصادقين الكذب هو نافذة الشر على كل الخطايا كما يقولون وهو قبيح وأقبح ما يكون في الرؤساء والحكام.
* أن يكون كبير النفس محبا للكرامة تعاف نفسه ارتكاب الدنيا، ومن سنن الحياه أن هذه الصفة تنعكس كامله على الناس فإن كان الرئيس كذلك كانوا، وإن كان خسيسا دنيئا سادت فيهم أخلاق الخسة والنذالة والدناءة وانتشرت بينهم الجرائم الوضيعة وأصبحوا "نفوسا لا تليق بها المعالي ** وأخلاقا تضيق عن المساعي".
* أن تكون أعراض الدنيا عنده هينة لا يتكالب عليها، حب الدنيا والتعلق والاطمئنان بها من الصفات التي لا تليق بالقائد الذي يسير بشعبه في دروب الحياه حاملا على كتفيه أحلامه وهمومه.
* أن يكون عادلا محبا للعدل يعطي النصح ويكره الظلم وصفه العدل في الرئيس من أخص خصائص دوره وهو الذي ينشر ثقافة الالتزام بالقانون إيمانا وفهما منه بأن القوانين لم توضع لتمكينه من فعل ما يشاء بل لفعل أحسن ما يستطيع.
* أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذى ينبغي أن يفعل جسورا مقداما غير خائف ولا ضعيف، فيلتف حوله الناس عن حب ومهابة وثقة وهذه الصفة مرتبطة بصفة الإعراض عن الدنيا والتكالب عليها ذلك أن الناس لديها مؤشر شديد الدقة تجاه هذه الصفة تحديدا فإن وجدوه من أهل "عش ودع عشيرتك تعيش" انصرفوا عنه وكرهوه وتمنوا له الهلاك.
هناك أيضا صفات مكتسبة من واقع علمه وخبراته وتجاربه ومعايشته للأحداث وتفاعله مع الأنظمة الاجتماعية والتقاليد العرفية، وهي:
*أن يكون حكيما في إدارته لشؤون الحكم والرئاسة الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا وهي من الله العليم الحكيم وهناك المعرفة وهي تأتي بالقراءة الدؤوبة والإكثار من مجالسة المفكرين والفلاسفة وأهل الرأي والمشورة.
*أن يكون عالما بالشرائع والسنن والسير التاريخية وأخبار الأولين.
* أن تكون لديه القدرة على الاستنباط والقياس في الأمور والمشكلات التي تستجد.
* أن تكون له رؤية وابتكار تسمح له بتشريع مبتكر في الأمور التي لم يحدث لها نظير و"الرؤية" من أهم صفات السياسي بوجه عام وهي الحد الفاصل بينه وبين "الإداري" الذي يتحرك في حدود ما يعلم ويبالغ في تقدير خطورة ما لا يعلم لأنه لا يعرف إلا الجمع والطرح. أما السياسي فهو صاحب عقل مبدع وله رؤيه تتجاوز المرئي والمسموع ويفاجئ المستقبل بمعرفته بتطورات الأحداث وعواقب الأمور والرئيس إن لم يكن كذلك أو لم يحاول أن يكون كذلك أصاب بلاده وشعبه بأخطر ما يمكن أن يصاب به مجتمع وهو ما يمكن أن يسمى "التقدم التراجعي"، إذ تبدو عجلة الحياه تسير ولكنها لا تتقدم تاركة وراءها جمودا وركودا مصحوبا – بطبيعة الحال – بعفن وفساد حتى الممات.
* أن يكون على دراية جيدة بالشؤون العسكرية والحروب والقتال.
هذه هي الشروط التي يراها فيلسوفنا العزيز ضرورية في من يلي سدة الحكم، بقي أن نعرف أن الفارابي (872- 950م) اسمه بالكامل محمد بن طرخان، ولد في تركيا في قرية قريبة من مدينة فاراب التي تقع على نهر سيحون، وعاش في كنف سيف الدولة الحمداني (ممدوح المتنبي) في حلب والذي كان محبا للعلوم والآداب.