هي كيمياء ليست كأي كيمياء... قل عنها حب.. أو حتى عشق.. ستبقى كيمياء لها سر أو تخفي وراءها أسرار.. هي كيمياء منسوبة لتاريخ مجيد رفض الجغرافيا فعانق الوجدان الوجدان... فطويت مسافات وجبال ووديان.. فالتقت على إثرها أنهار العشق المغاربي الأصيل منسوب الدماء، ورجال لها تاريخ وصولات على أرض
فلسطين...
إنها الكيمياء إذن... وهي تحتاج لمختبرات لتحليل جزئياتها لتتضح جذور أشواقها لفلسطين، التي ما فتئت تبهر السامعين والرائين، لذلك كان لا بد من عودة إلى مختبر التاريخ ليخبرنا عن عناصر التميز المغاربي في حب وعشق فلسطين...
جذور دينية
ولعشق المغاربة لفلسطين أسباب عديدة.. أبرزها رحلة الحج.. التي اتخذت مع مرور الزمن تقليدا خاصا بأهل
المغرب العربي والأندلس.. حيث اعتادوا.. وبسبب بعد المشقة.. أن يربطوا بين رحلة الحج وزيارة
القدس.. فيما اصطلح عليه اسم تقديس الحج.. أي إتباع فريضة الحج بزيارة القدس، بل ومدينه الخليل أيضا..
وهناك عدد من الأعلام الذين وثّقوا لرحلات القدس، من أمثال أبي سليم العياشي وسيدي حرازم وأبي بكر بن العربي، حيث ترسم لنا أدبيات الحج هذه، وزيارة بيت المقدس، عن وجدان وولع مغربي لبيت المقدس، وصل إلى أن العديد من العائلات المغاربية، بعد زيارة بيت المقدس، قد تركت سكنها الواسع والفسيح في قرطبة أو غرناطة أو فاس، مؤثرة على ذلك الإقامة في بيت ذي أمتار قليله ملاصق للمسجد الأقصى.. ومن هؤلاء من أصبحوا أعلاما في تاريخ القدس، أئمه وقرّاء في المسجد الأقصى.
جذور جهادية..
من ناحية أخرى.. فقد كان جهاد المغاربة في بلاد الشام ضد الحملات الصليبية ومشاركتهم صلاح الدين تحرير بيت المقدس دلاله واضحة على مكنون العاطفة الإسلامية لدى المغاربة تجاه فلسطين
فالمصادر التاريخية عامرة بدور المتطوعة المغاربة الذين جاهدوا على أرض بلاد الشام، وهي ليست مقتصرة على مشاركة صلاح الدين الأيوبي في تحرير بيت المقدس.. بل قبل ذلك بكثير، وتعود لبدايات جهاد آل زنكي.. حيث كان لنور الدين زنكي فرقه متطوعة مغاربة للمهمات الخاصة... وكانت أشبه بالقوات الخاصة اليوم... حيث شاركت مع نور الدين زنكي في مهمات عسكريه خاصة.. وعندما وقع بعض أفرادها أسرى بيد الصليبيين.. بعد تحرير الرها في العام 1144م.. فقد قام نور الدين زنكي بنصب كمائن عديدة للصليبيين بالقرب من مدينه حماه لأسر جنود صليبيين لتحرير أسراه المغاربة.
وقد أورد الرحالة ابن جبير في كتابه قصصا مشابهة... منها أن تاجرين دمشقيين قد تخصصا في تقديم الفدية للممالك الصليبية لإطلاق سراح الأسرى المغاربة الذين وقعوا في الأسر لمشاركتهم نور الدين زنكي الجهاد... وقد لفت النظر أيضا في كتابه أن الصليبين كانوا يفرضون غرامات باهظة (مكوس) على المغاربة والأندلسيين القادمين إلى بلاد الشام.. مما رأوا منهم شدة باس واستبسال في الإغارة على الممالك الصليبية...
"وأكثر المعترضين في هذا المكس المغاربة. ولا اعتراض على غيرهم من جميع بلاد المسلمين. وذلك لمقدمة منهم أحفظت الفرنجة عليهم سببها أن طائفة من أنجادهم غزت مع نور الدين رحمه الله؛ أحد الحصون، فكان لهم في أخده غنى ظهر واشتهر، فجازاهم الإفرنج بهذه الضريبة المكسية، ألزموها رؤوسهم فكل مغربي يزن على رأسه الدينار المذكور" (ابن جبير - تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار، ص266).
أما قصه المغاربة مع صلاح الدين الأيوبي فهي ذات شهرة كبيرة... ويكفي أن نشير إلى أنه ما إن نادى المنادي للجهاد في المغرب الأقصى.. إلا وقد انتفضت المدن والنواحي المغاربية.. فتوافد آلاف المتطوعة المجاهدين إلى المساجد.. كما توافدت عموم أهل القرى والمدن والنواحي إلى المساجد حاملين معهم دوابهم ومتاعهم ودراهمهم وكل ما يملكون... وتقدمت النساء أيضا، والعجائز قدمن حليهن وكل ما يملكن من دراهم... مساهمة منهن في الجهاد المقدس...
وإن كان بعض مؤرخي الحملة الصليبية قد أشاروا إلى أن ربع جيش صلاح الدين في معركة حطين كان من المتطوعة المغاربة، إلا أنه أيضا لا بد من إضافة أن المغاربة قد سكنوا واستقروا في مدن فلسطينية، وخاصة مدينتا القدس والخليل اللتان ما زالتا شاهدتين على وجودهم ووجود أحفادهم إلى يومنا هذا...
ففي القدس أوقف لهم صلاح الدين ومن بعده ابنه الأفضل؛ حارة المغاربة... وحينما سئِل صلاح الدين الأيوبي من قبل حاشيته عن سبب إسكان المغاربة في هذه المنطقة، أي عند السور الغربي للمسجد الأقصى، وهي منطقة سهلية يمكن أن يعود منها الصليبيون مجددا، على اعتبار أن الجهات الثلاث الأخرى وعرة، أجاب بقوله: "أسكنت هناك من يثبتون في البر، ويبطشون في البحر، من أستأمنهم على هذا المسجد العظيم، وهذه المدينة".
وما زالت العديد من أوقاف القدس، ومنها قرية عين كارم، شاهدة على الوجود المغاربي في أرض فلسطين.
أما مدينه الخليل.. فتكفي الإشارة إلى منطقتي مربعة (سبتة) وخلة المغاربة في وسط مدينة الخليل.. وقد أطلق عليها هذا الاسم نسبه إلى سبتة المغربية... فكان معظم من سكن هذه المنطقة هم عائلات مغربية قدمت إلى فلسطين للجهاد مع صلاح الدين الأيوبي.. فأطلق على هذه العائلات "ناصر الدين"، لنصرتها الدين بتحرير الأرض المقدسة...
ولم ينقطع المغاربة عبر التاريخ الإسلامي عن فلسطين عموما، والقدس خصوصا... ويذكر مجير الدين الحنبلي، في كتابه "الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل"، أسماء علماء دين مغاربة قد رحلوا للإقامة في بيت المقدس للتدريس، فكان منهم القراء أئمة المسجد الأقصى والمدرسون والدعاة.. وبقيت القدس والمسجد الأقصى عامرين بهؤلاء عبر الأزمنة كافة...
من ذلك أيضا أن هناك عائلات ما زالت تحتفظ بأصلها المغربي، وتشكل جزءا من النسيج الفلسطيني. ومن أشهر هذه العائلات عائلة العلمي... والعلمي نسبة إلى جبل العلم في المغرب، وهم من العلويين المنسوبين إلى المماليك الشراكسة. والعلمي عائلة معروفة، ومنها فرع القدس وفرع غزة، وفرع في اللد عرف باسم سعودي العلمي، ومنهم أبو الوفا والصلاحي العلمي وتاج الدين العلمي، ومن نقباء الأشراف في فلسطين الوفائي الحسيني.
ومن العائلات المغاربية: المقادسة وآل أبو السعود الأدارسة وآل شعشاعة الأدارسة والبدري والبديري وبدير والمغربي وعائلة الطيب والشنشي ومشتهى وناصر الدين وأبو سعود والتوتنجي.
كما أن عائلات آل الفاروقي وآل أبو الهدى وآل الخيري وآل التاجي المنتشرين في عكا والرملة ويافا ونابلس؛ تعود إلى المغرب العربي.
وجرى العرف آنذاك على إطلاق اسم (المغربي) و(
الجزائري ) على العائلات القادمة من بلدان المغرب العربي، حتى ولو كان معظمها تنتمي إلى عشائر وعائلات مختلفة لا تربط ببعضها بصلات قرابة.
الاستعمار الحديث ووحدة المصير...
ولوقوع المغرب العربي تحت محنه الاستعمار الفرنسي الطويل.. خاصه الجزائر... أثر عميق في تعميق التواصل المغاربي مع الشعب الفلسطيني.. وكأن وحدة المصير تحت الاستعمار.. بما يحمل من ذاكرة أليمة ما زالت حية في الشعوب المغاربية... أضافت للوهج الديني ارتباطا وترابطا مع القضية الفلسطينية، فباتوا يعبرون عن آلامهم وآلام آبائهم من الاستعمار الغربي، بالتضامن الشعبي العريض مع الشعب الفلسطيني...
كما أننا يجب أن لا نغفل المأساة الأندلسية، حيث تشابهت عمليات الاضطهاد والتهجير التي تعرض لها كل من الأندلسيين والفلسطينيين.. فباتت هناك ذاكرة أندلسية مهجرة، حية متوزعة على مدن المغرب العربي، ترى في فلسطين مأساتها المزدوجة إلى يومنا هذا، بما تحمل من أدبيات وأشواق التحرر والعودة إلى أرض الأجداد... علما أن العديد من هذه الأسر الأندلسية هاجرت إلى فلسطين منذ القرن الثالث عشر الميلادي، ومنها عائلات المرواني وطهبوب في الخليل...
أخيرا لا ننسى أن الأمير عبد القادر الجزائري عندما غادر الجزائر إلى الشام؛ تبعه آلاف من الجزائريين... وبعد صولهم ساحل فلسطين سكنوا في الشمال الفلسطيني... وبقيت لهم علاقات اجتماعيه مع أسرهم في الجزائر. وهناك قرى فلسطينية تحمل أسماء عائلاتهم... أيضا يضاف إلى ذلك أن المجاهد المغاربي (أسد الريف) عبد الكريم الخطابي؛ قد أوفد وفودا إلى البلاد العربية لمد العون له.. فكان قد أوفد وفدا إلى مدينه نابلس في العام 1920، وقد التقوا بأهل المدينة وأعيانها..
أيضا في 1929.. توجه ثلاثة شبان مغاربة من مدينه فاس إلى فلسطين.. واستقروا في مدينة نابلس من أجل تقديم العون للشعب الفلسطيني في كفاحه وجهاده... وهنا لا بد أن نذكر أن مئات من الإخوان المسلمين التوانسة قد شاركوا الجهاد في فلسطين قبل وأثناء العام 1948م.. وغني عن الذكر التأكيد على مشاركه كافه أبناء المغرب العربي في النضال الفلسطيني بعد العام 1967م.
أما يومنا هذا، فتشهد عموم بلاد المغرب إجماعا منقطع النظير على التوحد نصرة القضية الفلسطينية بشتى الوسائل.. بل هي قضية إجماع وطني وإسلامي في عموم بلدان المغرب العربي... وكأن الشعوب المغاربية التي فرقتها الحدود الجغرافية والسياسية قد جمعتها القضية الفلسطينية، فباتت قضيتهم التي تشغلهم عن قضاياهم.. يحيون معها منذ نعومة أظافرهم... في البيت والمدرسة والشارع.. وهي تشغل حيزا لا بأس به في الأدب والمسرح المدرسي... فمن الشائع جدا أن تكتب المسرحيات المدرسية حول فلسطين والقدس...
أما الدعم والمؤازرة، فما زالت بلدان المغرب العربي عامرة بمؤسسات الدعم الأهلي والمدني لفلسطين ومقاومة التطبيع... فكما أتاحت لنا مسيرات الرباط المليونية مشاهدة هذه الجماهير المحبة لفلسطين.. فقد أتاحت لنا منابر التواصل الاجتماعي والفضائيات التي باتت عامرة بالجزائريين والمغاربة والتونسيين عن سماع صوت المحبين والعاشقين لفلسطين