يبدو أن القيادة الإيرانية التي عانت من عمى سياسي في المنطقة بدخولها في مواجهة مع القوى السنية فيها في السنوات الأخيرة، لم تستشعر حتى الآن مدى جدية الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الحشد ضدها في سياسة تختلف إلى حد ما مع سياسة سلفه باراك أوباما.
فإيران المزهوة بما تسميه انتصارها في حلب، وسعت لبسط هيمنتها على الموصل، لإحداث تغيير ديمغرافي في سوريا والعراق -يضمن لها تواصلا جغرافيا شيعيا من طهران وحتى بيروت-، بدأت الآن تعاني من تراجع مكانتها لصالح روسيا وتركيا بعد معركة حلب، فيما هي على أبواب مرحلة جديدة من العداء الأمريكي قد تجعل من طموحاتها السابقة شيئا من الماضي.
تغيير ديمغرافي
وسعت طهران من خلال الزج بقوات النخبة فيها (الحرس الثوري) في العراق وسوريا وبالتحالف مع ميليشيات شيعية على رأسها حزب الله وميليشيات عراقية وغيرها إلى تغيير الخارطة الديمغرافية في المنطقة من خلال تهجير السكان الأصليين وإحلال ميليشيات شيعية فيها، وذلك تحت غطاء محاربة ما تسميهم التكفيريين (تنظيم الدولة) فيما هي تخوض معارك مع المعارضة السورية الحقيقية لصالح حماية رجلها في الشام بشار الأسد وتثبيت حكمه باعتباره الضامن الوحيد لتواصل نفوذ إيران من خلال سوريا إلى لبنان.
وأدخل ذلك هذه الدولة في صراع مع قوى سنية لحماية نظام ديكتاتوري مجرم وضعت كل ثقلها للحفاظ عليه رغم كل المجازر التي ارتكبها بحق شعبه، لتستعدي بذلك قوى الأمة الحية والتي تشكل غالبية في المنطقة مقارنة بالأقلية الشيعية، متناسية أن هذه الأقليات لا يمكن أن تعيش إلا باستمرار الدعم الخارجي لها، وهي قضية محط نظر بسبب التقلبات في المنطقة.
تناست القيادة الإيرانية وهي تسير وفق هذه الرؤية العمياء أن شعاراتها البراقة في العداء لإسرائيل قد تضررت إن لم تكن انتهت، فأصبح العدو في حالة راحة استراتيجية وهو يتفرج على الأمة تتصارع فيما بينها، لتخسر إيران وحزب الله مكانتهما التي بنيت على أساس خوض المواجهة مع عدو الأمة.
كما نسيت القيادة لإيرانية أن الأقليات الشيعية في المنطقة ستتعرض للانتقام عاجلا أم آجلا بعد أن تكون سطوة إيران قد تراجعت ونفوذها قد تضرر في المنطقة، وهو ما بدأنا نراه في الآونة الأخيرة بعد حلب.
تصعيد أمريكي وخسارة إيرانية
قد تكون هذه القيادة استفادت من السكوت الأمريكي على ممارساتها في عهد أوباما، وهو ما يبدو أنه انتهى بعهد الرئيس الجديد دونالد ترمب، الذي بدأ يعد العدة لعزلها وتضييق الخناق عليها استجابة للموقف الإسرائيلي الذي لم يكن راضيا عن الاتفاق النووي مع الغرب منذ البداية.
ولاحظنا منذ استلام ترمب مقاليد الحكم في الولايات المتحدة موجة تصعيد أمريكي غير مسبوقة ضد إيران ما يشير إلى استعداده لعزلها وإضعافها وتحشيد الغرب ضدها في معركة حصار طويلة من دون أن يتطور ذلك إلى حرب معها في المرحلة الحالية على الأقل.
والأخطر من هذا فإن إدارة ترمب تبحث تشكيل تحالف عربي لمواجهة طهران سيبدأ بمصر والسعودية والإمارات والأردن لإلحاق الهزيمة بإيران، وقد يتوسع لاحقا لتجهيز الساحة لإنجاز حل إقليمي يريده الإسرائيليون يبدأ بالتطبيع مع العرب وصولا إلى تصفية القضية وإنهاء ذيولها، الأمر الذي يعني خسارة عربية وإيرانية صافية لصالح إسرائيل.
لقد بدأت طهران بحصاد سياستها الطائفية العمياء في المنطقة، ابتداء بخسارة تفوقها في المنطقة بعد حلب وتراجع الغطاء اللازم من قبل روسيا وتقدم الدور التركي في سوريا على حسابها.
ويبدو أن خسائر إيران لن تقف عند هذا الحد، فانفضاض العالم العربي عنها قد يسهل عملية ضربها من قبل الولايات المتحدة في أي وقت طالما أن الشعوب مجروحة من سياساتها الطائفية بما يسهل على الأنظمة الاندماج في المسعى الأمريكي الإسرائيلي لتحجيمها.
تعديل السلوك مطلوب
كل هذا يتطلب من القيادة الإيرانية قرارا شجاعا بوقف استعداء السنة في المنطقة والتخلي عن مخطط التغيير الديمغرافي ووقف التعويل على النظام السوري الساقط.
لقد استجلب السلوك الإيراني عداء غير مسبوق عليها ولا بد من التصالح مع غالبية هذه الأمة لأن ذلك هو السند الوحيد لها والمقيد الأساسي لتآمر الأنظمة العربية على القضية الفلسطينية وعلى إيران.
وفي هذا السياق، وبدلا من التصارع مع تركيا والتصعيد ضدها، فلا بديل لإيران عن التنسيق معها لأن هذين البلدين مستهدفان أصلا باعتبارهما عناوين للصمود والقوة في المنطقة في مقابل إسرائيل.
إذا لم تقم القيادة الإيرانية بتغيير سلوكها وإعادة النظر في سياساتها قصيرة النظر في ظل التحولات الدولية والإقليمية، فستجد نفسها وحيدة ومحاصرة في المنطقة.. فهل يستوعب النظام الإيراني هذه الدروس ويبدأ بتخفيف الاحتقان الطائفي في المنطقة والتحالف مع قواها الحية في مواجهة المخطط الأميركي الصهيوني.. أسئلة برسم الإجابة العملية من قبل إيران قبل أن يفوت الأوان.