لم يجد المرشح اليميني للانتخابات الرئاسية الفرنسية فرانسوا فيون غير دعوة أنصاره للتجمع بباريس في محاولة منه للضغط أولا على قادة حزبه منعا لإخراجه من السباق الرئاسي، وثانيا ضد الجسم القضائي الذي استدعاه رسميا للمثول أمامه منتصف الشهر الجاري لتوجيه الاتهام له في قضية ما صار يعرف بـ"يبينلوب غيت".
فيون يعرف أن دخول قصر الايليزيه وحده ينقذه من المحاكمة في حال توجيه الاتهام رسميا إليه حيث سينال الحصانة بمجرد إعلانه "فائزا" في الانتخابات بداية شهر مايو. لكنه يعلم أيضا أن القضية ستنتظره حتى يوم توديعه للوظيفة الرئاسية، كما حدث لسلفيه جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، ويراهن على عامل الوقت الذي سيطفئ على الأغلب جذوة المطالبات الشعبية بمعاقبته، وعلى التقليد الفرنسي الذي تفادى محاكمة الرؤساء السابقين وغض الطرف عن تجاوزاتهم ما لم تمس بالأمن القومي للبلاد.
الحكاية أن فرانسوا فيون، وبعد انتصاره في تمهيديات اليمين والوسط بنسبة ساحقة على منافسه آلان جوبيه، كان يرى، ومعه المتابعون للشأن الانتخابي الفرنسي، الطريق معبدة أمامه لسلالم القصر الجمهوري أيا كان منافسه في الدور الثاني للانتخابات يمينا متطرفا أو يسارا متطرفا أو معتدلا أو بدون انتماء. لكن جريدة لوكانار اونشنيه (البطة المقيدة) كان لها رأي آخر.
بدأت الفضيحة، التي تهدد طموحات فيون، بنشر الجريدة تفاصيل انخراطه في توظيفات وهمية لزوجته بنيلوب وولديه مقابل أموال طائلة من المال العام تقارب المليون يورو. فيون كان بنى حملته الانتخابية على الشفافية في مواجهة منافسيه وعلى رأسهم آلان جوبيه. ولأن اللسان لا عظم فيه، فقد صرح أن المهمة الرئاسية وكذا الوزارية تستدعي "نظافة اليد" وعدم وجود "شبهة فساد" أو "تحقيق رسمي أو إدانة سابقة". أسابيع قليلة كانت كافية ليتراجع الرجل عن كل كلامه بما فيه استعداده للتنحي في حال توجيه استدعاء رسمي له من طرف القضاء. لأجل ذلك، دعا للتجمع الباريسي فيما يشبه المسيرات التي ألفناها في الأنظمة الديكتاتورية والعربية، وأطلق حملة إعلامية مضادة، في محاولة لوقف تراجع شعبيته المتهاوية بشهادة استطلاعات الرأي جميعها. زوجته بنيلوب لبت النداء وصرحت لإحدى الجرائد أنها تطلب من زوجها "كل يوم أن يستمر حتى النهاية وألا يتراجع، فلا أحد غيره يمكنه أن يكون رئيسا". يقول فرانسوا فيون أنه يتعرض لعملية “اغتيال سياسي" لكن الواضح أن زوجته، كما كثير من زوجات الساسة والحكام عبر التاريخ، تدفع الرجل إلى "انتحار سياسي".
يشهد التاريخ المعاصر منه والقديم أن النساء كن دوما في واجهة الأحداث تنتقل أدوارهن بين الكواليس إلى الواجهة حسب ما تقتضيه الظروف وتسمح به الأوضاع. ليلى بنعلي وايميلدا ماركوس وايلينا تشاوسيسكو وأخريات كثيرات كن، في العقود الأخيرة، القشة التي قصمت ظهور أزواجهن الغارقين في تكريس أنظمة حكم شمولية اعتلين فيها الواجهة وصدارة الأحداث. ليلى حولت تونس لمحمية عائلية وبدأت ترى في نفسها الخليفة الشرعية لبعلها. وايميلدا كانت الحاكم الفعلي بالفليبين قبل أن "ترثها" امرأة أخرى باسم كورازون أكينو قادت المعارضة ووصلت للحكم بانتخابات. أما ايلينا فكانت من بين أسباب أخرى سببا في سقوط حكم زوجها الذي انتهى بهما إلى الإعدام. ولأن التاريخ كثيرا ما يعيد نفسه، ولو بأشكال أكثر كاريكاتورية، لم يجد الرئيس الأذربيجانني إلهام علييف غير زوجته مهريبان لتعيينها نائبة للرئيس قبل أيام. هو اسم على الأقل أقرب ما يكون لفعل الهروب الذي انتهجه من سبقه بعد الثورة الشعبية على أنظمتهم.
ما يحدث في فرنسا لا يبتعد كثيرا عن هذه السوريالية مع قياس يأخذ الفارق بعين الاعتبار. ماري انطوانيت كانت ملكة فرنسا، وإن كان أصلها نمساويا، وكانت سببا في إنهاء الحكم الملكي وقيام ثورة نادت بالحرية والمساواة والإخاء، وأدت لقيام الجمهورية على أساس سيادة القانون وإعلاء الديمقراطية شعارا بديلا. في فرنسا، حول الساسة "الجدد" المشهد الديمقراطي إلى لعبة مصالح حزبية وذاتية انتهت إلى مجرد فرجة على سيرك عرائس شاخت وفقدت بريقها.
الفرنسيون لا يهتمون كثيرا بمغامرات حكامهم العاطفية. لكن الحظ العاثر لفيون وضعه وزوجته في معمعة شبهة "اختلاس" أموال عمومية، وربما كان هذا الجديد في القضية. في فرنسا، رأينا كيف ظهرت للرئيس فرانسوا ميتران ابنة من علاقة غير شرعية. وكيف كانت بيرناديت شيراك تتحكم في دواليب مهمة في قصر زوجها. وكيف أن "طلقت" سيسيليا زوجها نيكولا ساركوزي الذي وجد الملاذ في زواجها من مطربة. وكيف كان هولاند يتسلل من قصر الايليزيه ليلا، دون حماية يفترضها منصبه كرئيس، ليقضي الليل مع الممثلة جولي غايي وهو الذي كانت "سيدة فرنسا" الأولى وقتها فاليري تريرويلر تعيش معه خارج إطار الزواج. كلها "فضائح" ميزت فترات حكم الرؤساء الفرنسيين منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي دون تأثير على مساراتهم السياسية وما تحتفظ به الذاكرة الجمعية الفرنسية عن ولاياتهم. بنيلوب غيت، رغم اختلافها عن السابقات، قد تنتهي إلى تبرئة الرجل ولو بعد حين.
لنعد إذن إلى قضية بنيلوب وبموازاتها وجه نسائي آخر يدق أبواب الانتخابات الرئاسية الفرنسية بقوة باسم مارين لوبن وإن كانت تفضل هي ووالدها، الذي طردته من الحزب، اسم مارين دون ألقاب.
يقول فرانسوا فيون أن هناك تحيزا ضده من قبل القضاء ووسائل الإعلام بهدف اغتياله سياسيا، معتبر أن عملية الاغتيال لا تستهدف شخصه فقط بل الانتخابات الرئاسية برمتها، والمعنى استهداف الديمقراطية وحق الشعب الحر في الاختيار. في بدايات "الفضيحة" تحدث عن "مؤامرة مدبرة" من الايليزيه. وفي وجه كل هؤلاء استنجد بالشارع وهو الذي كان يعلن قبل سنة فقط أن ديمقراطية الشارع ليس لها مكان في دولة المؤسسات. ولأن مثل هذه الاتهامات لا تستقيم فعليا في دولة مثل فرنسا، فقد اختار، عكس ما عرف عنه في السابق، الصدام مع قادة حزبه ليبقى الخيار الأوحد لخوض الانتخابات عن اليمين، ولتكريس شخصه كمنقذ للبلاد بدأ حملة للتخويف من إمكانية فوز اليمين المتطرف ومرشحته مارين.
استراتيجية مارين لا تختلف في شيء عن كل ما سبق، فهي متهمة أيضا بتوظيفات وهمية بالبرلمان الأوربي لعدد من المقريبن إليها تنظيميا، وهو ما جعل بروكسل تطالبها باسترداد ما يقارب 350 الف يورو من تعويضات وهمية استخدمتها في تمويل الحزب بفرنسا. لأجل ذلك، اتهمت الصحافة بأنها تقود "حملة محمومة" لصالح منافسها في الاستطلاعات ايمانويل ماكرون، الوجه الشاب الذي لم تتعود فرنسا الشائخة في رؤية أمثاله منافسين حقيقييين على أعلى سلطة سياسية بالبلاد، فوجهت دعوة للانتباه إلى الشعب الفرنسي حتى لا تسرق منه الانتخابات. أما القضاء فاكتفت بالامتناع بشكل واضح عن الاستجابة لاستدعاء الشرطة لها للتحقيق حتى نهاية الحملة الانتخابية، ودعت القضاء إلى "عدم معارضة إرادة الشعب" في تحد لسلطة لا يستقيم العدل دونها.
في فيلم (Feroce - 2001) للمخرج الفرنسي جيل دوميستر، والذي يحكي قصة صعود زعيم حزب يميني متطرف بفرنسا يحاول تغيير الصورة المرسومة حوله لدى الرأي العام بهدف الوصول لمنصب الرئاسة مستعينا بخبيرة في التسويق، وانتج سنة قبل وصول جان ماري لوبن (والد مارين) للدور الثاني للرئاسيات في صدمة لم تكن منتظرة، يدور هذا الحوار داخل استوديو برنامج تلفزيوني يناقش كتابه الجديد حول الطبخ:
الصحفي: السيذ هيغون ايغل، انت زعيم لحزب من اليمين المتطرف...
ايغل: (يقاطعه) زعيم حزب يميني حقيقي
الصحفي: هل أنت بصدد العمل على تغيير صورتكم أمام الرأي العام للوصول إلى أكبر شريحة منه؟
ايغل: لقد تعبت من الصورة الكاريكاتورية المرسومة عني في وسائل الإعلام.
أحد الحاضرين: عندما تقترح طرد الأجانب حلا لتشغيل العاطلين فأنت من يرسم صورة كاريكاتورية.
ايغل: منذ عشرات السنين وأناس مثلك يتناوبون على الحكم في هذه البلاد ولم تنجحوا إلا في زرع الشقاق بين الجار وجاره. لا مجال إذن لتعطوني دروسا في الديمقراطية.
في الواقع، طبقت مارين لوبن كل ما طلبته مسؤولة التسويق السياسي في الفيلم بما فيها طرد والدها الذي صار يشكل عبئا على التوجه الجديد للحزب. ومقابل ذلك حافظت على الجملة السحرية الواردة "أفكار بسيطة لأناس بسطاء". الأدهى أن اليمين، المسمى معتدلا، رمى بآلان جوبيه خارجا ولقبه بعلي جوبيه، واستعار مرشحه فرانسوا فيون نفس طرق الزعماء الفاشيين للسيطرة على القرار الحزبي ومحاولات التشكيك في الصحافة والقضاء، بل تعدى الأمر لاستلهام أفكار اليمين المتطرف لتضمينها برنامجه الانتخابي.
في العام 2012 حشد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي أنصاره في نفس الساحة التي احتشد فيها أنصار فيون خمس سنوات بعدها، لكن النتيجة كانت سقوطا مدويا لساركوزي أمام خصمه هولاند. وفي معركته ضد خصومه في الحزب يبدو فرانسوا فيون منتصرا، وكل أمله في استعادة موقعه في الانتخابات.
لكن منافساه الأبرزان مارين لوبن وإيمانويل ماكرون هما المنتصران الفعليان في استمرار ترشحه باعتباره الخصم اليميني الأضعف، وهو بذلك إنما يجر اليمين لعملية "انتحار جماعي" بتحفيز من بينلوب التي وسوست له أن " لا أحد غيره يمكنه أن يكون رئيسا لفرنسا".