إنه الطاغية المستبد ذاك الذئب المفترس الذى لايرى للناس رأيا الا ما يراه هو ولا يسمع للناس صوتا إلا أصداء صوته هو، ولسان حاله ومقاله يقول أنا الأمة وبرحيلي ترحل الأمة ذاتها، القرآن الكريم ضرب لنا مثلا بالطاغية المستبد في أكمل حالات طغيانه واستبداده _مع الاعتذار للكمال _ وهو (فرعون) الذي قال لشعبه (ما علمت لكم من إله غيري) وقال ايضا (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) العته كله والخبل كله مصحوبان بقسوة لافحة غليظة متفردة في احتكار الحقيقة واحتقارالشعب. سنعلم بعدها أنه ما كان ليكون كذلك إلا لأن الشعب كان خفيفا فى افكاره منفلتا في افعاله، سمعنا من احد الطغاة قوله فى احد جلجلات عتهه وخبله (لقد علمتكم العزة والكرامة) يومها قال الاستاذ العقاد إما أن الرجل فقد عقله أو أن الناس فقدوا عقولهم وقد كان الاثنان معا!؟
حين استبدت بفرعون هلاوس الطغيان فقال ما قاله نصحه بعض مستشاريه أن (يخفف المسألة قليلا) فقالوا له "أَرْجِهْ وأَخَاهُ وأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ "كي لا تكن مندفعا متهيجا مخافة المجهول من الحوادث وتتابعها. فكان أن عمل بنصيحتهم وخفف من هلاوسه الطغيانية وقال (ذروني أقتل موسى..) حتى تكتسي المسألة ثوبا شعبويا بتفويض الناس له بالقتل فيكون قتل بالقانون، على أن الأحداث تطورت على نحو تاريخي وانساني بالغ العظمة فسيأتي (بكل سحار عليم) وسيكون علينا هنا ان نعرف حقيقة أمر هؤلاء السحرة إذ لم يكونوا مجرد حواه (جمع حاوي)، بل صدر عنهم موقف من أعظم مواقف الشجاعة والقوة في الانتصار للحق عبر التاريخ كله، ولم يلبثوا حتى قالوا فورا وحالا حين تبين لهم: الحق مع موسى وقد آمنا بربنا ليغفر لنا، من الآخر كما يقول المصريون وكل هذا تم في غضون ساعة تقريبا لكنها ساعة خرجت من ترسيمة الزمن المعتاد لتكون ساعة كل الأزمان لا زمنهم هم فقط، وكأن الإنسانية بكمالها وتمامها تأبى إلا أن تسفر لنا عن وجه من أبهى وجوهها في تاريخ البشر عند انعطافات التاريخ الحادة لتكون المنارات والعلامات الهادايات لبني الإنسان على مدى عيشهم على وجه الارض.. لم يهتموا كثيرا بحديث التصليب والتقطيع وما إلى ذلك وانطلقوا في رحاب الإيمان والمغفرة واضعين ما أكرهوا عليه من (السحر) تحت أحذيتهم، حين يذكر نموذج فرعون كطاغية متعال ومستبد ومتفرد في عبرته سيكون ذكر هؤلاء الرجال بموقفهم هذا في يوم الزينة من أعظم المواقف الإنسانية في التاريخ، تلك المواقف التي تنتصر للحق والفكرة والمعنى على ما عداها من ألوان الكذب والخوف والتدليس، باختصار صدقوا الله فصدقهم، وسيكون الصدق مع الله عبر رحلة ارتحال الصالحون الهداه المهتدون في الزمن هو اعمق ما في الشرط الانساني كله من حقيقة.
كثير حياة المرء مثل قليلها *** يزول وباقي عمره (مِثلُ) ذاهبِ
تروي لنا كتب السيرة أن حذيفة دخل على عمر رضي الله عنهما فوجده مهموما فسأله عما به فقال أخاف أن أخطئ فلا ينبهني أحد تعظيما لي، فقال له حذيفة ببراءة ووعي ممتزجان على كمال الصدق: والله لو رأيناك على خطأ لصوبناك، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل لي أصحابا يقومونني. البعض يحاول بحسن نية أم بغير حسن نية إخراج عمر من قافلة البشر العاديين ليستحيل وفق كلامهم تطبيق تجربته في السلطة والحكم عدلا ورحمة وقوة. في عام 1854 ولد بمدينه حلب رجل عظيم وتوفي بمدينة القاهرة عام 1902 وكتب على قبره (هنا رجل الدنيا* هنا مهبط التقى* هنا خير مظلوم* هنا خير كاتب* قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلموا عليه* فهذا القبر قبر الكواكبي).
خلال هذا العمر القصير (48 عاما) ألف هذا الرجل (عبد الرحمن الكواكبي) سفرا من أروع الأسفار التي تتناول هذه الظاهرة التاريخية المقيتة (الطغين و الاستبداد) فكان إن أخذ يصف في طباعه وألوانه وتعريفاته ما شاءت له مآسي البشر عبر تاريخ ذلهم وقهرهم تأملا وفهما واتعاظا ونصحا لإخوانه في الإنسانية عن ذاك الذي يعصف بإنسانيتهم في أهم مكوناتها (الحرية والكرامة والعدل) ولأن أمثال الكواكبي من أشجار الوقار ومنابع الأخبار علموا أن التاريخ ليس مجرد حوادث تتوالى بقدر ما هو (قوانين وثوابت وروابط تجمع بين أشتاتها وتعرض على أصولها و أشباهها و تسبر بمعيار الحكمة وتقاس على طبائع الناس وتحكم النظر والبصيرة في أخبار التاريخ) فكان أن قدم نصيحة جديرة بالتأمل في مواجهه الاستبداد والطغيان فهو يرى أن مواجهة الطغيان والاستبداد لا تكن بالقوة والعنف إنما باللين والتدرج وهذا قول خطير يغفل الباحثون عنه في استلهامهم لأفكار الكواكبي، ذلك لأن الاستبداد محفوف بكل أنواع البأس والقسوة فإذا قوبل بالعنف كانت فتنة تحصد الناس.! وهو الفخ اللئيم الذي نصبه طاغية سوريا لشعبه حين خرج ينادي بالعدل والحرية في مارس 2011م فحدث ما توقعه الكواكبي، (منتسكيو) كان ممن انتبهوا إلى هذه (النيرونية) التي تقبع في رأس كل طاغية فوصفه وصفا مدهشا فقال: (الطاغية المستبد هو ذاك الذي يقطع شجرة من أجل أن يقطف ثمرة) !!!
فكانت تلك النصيحة الذهبية من صاحب (طبائع الاستبداد) و(أم القرى) بأن يواجه الاستبداد والطغيان بالحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة والحق والحرية، وهو مالا يكون إلا بالتعليم والتحميس _على وصفه_ ولعله يقصد تهيئة الرأي العام من خلال التربية والمدرسة والاعداد والدعوة، تحفر عميقا كي تبني عاليا. لكنها العجلة وسوء التقدير للعواقب والنتائج ناهيك عن مؤمرات ليالي الظلام في غرف شياطين الإجرام.
الدكتور إمام عبد الفتاح إمام له دراسة عن (الطاغية) نشرتها سلسلة (عالم المعرفة) فيصفه بأنه: "ذئب مفترس يلتهم لحوم البشر،يأسوأ أنواع الحكام وأشدهم خطورة ولا يمكن الإفلات من قبضته الرهيبة إلا بالإيمان الحقيقي بالديمقراطية والسعي الجاد لتطبيقها وهو ما لا يكون إلا بالإعداد والتجهيز والتريث والتنبه باتجاه اقامة الانسان على اسس الوعي والادراك بمعاني القوة الكاملة التي تكون اكمل كمالاتها في عقله وارادته قبل يده وسلاحه.