في هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا الوطني، لا شك في أننا أحوج ما نكون إلى بناء "ثقافة حوارية" تسعى إلى خلخلة هيمنة "المتن" أو الصوت "الواحد" في عملية إنتاج المعرفة "الصحيحة" و"الشرعية" خاصة في المستوى السياسي. ولعل من أهم وظائف المشتغل بالشأن العام (وهو وريث المثقف وتجاوزه الجدلي في الNن نفسه) أن يطرح في النقاش العام بعض المسائل التي هي من اللامفكر فيه أو مما تجري فيه العبارة في السجال العام بلا ضبط ولا تدقيق. ولعل من أهم القضايا التي ينبغي التصدي لها هي محاولة ضبط العلاقة بين مفهومي "المسلم" و"الإسلامي" في زمن هيمنة الصراعات الثقافوية بين الإسلاميين والعلمانيين من جهة أولى، وبين مختلف التشكيلات الإيديولوجية للإسلام السياسي من جهة ثانية (سواء بين تشكيلات تنتمي للمذهب السني نفسه أو بين تشكيلات تنتمي لمذاهب مختلفة)، وهو ما سنحاول المساهمة فيه ببعض المقدمات النظرية التي هي لا تدعي أية أفضلية معرفية ولا شرعية.
لو أردنا تعريف الإسلامي تعريفا جامعا مانعا لقلنا-اتباعا لتعريف بوبي.س.سيد له- إنه ذاك الشخص الذي يعتبر الإسلام مشروعا سياسيا جماعيا يتجاوز الدولة القطرية (الدولة-الأمة) وليس فقط مشروعا دينيا فرديا أو مجرد عنصر تكميلي صوري في خطابات التحديث "الكمالية" (نسبة إلى كمال أتاتورك). ولكنّ الإسلامي -مهما اتّسعت آفاق تفكيره وتعدّدت مرجعياته وتداخلت - يبقى "مُتمذهبا"، منتيما إلى "تراث" فقهي أصولي عقدي مخصوص، بحيث نجد هوّة كبيرة بين "الدعوى" و"المحصول". فـ"الإسلامي" لم يوفّق إلا قليلا في هتك أسيجة "المذهب" وفي اختراق منظوراتها ورهاناتها التراثية من جهة أولى، وفي التجاوز السلس للعلاقة الصدامية بين "الإسلاميين" والدولة الحديثة وفلسفتها السياسة من جهة ثانية. وليس أكثر دلالة على ثقل الموروث المذهبي من قدرة الكثير من الإسلاميين على التطبيع مع الفلسفة السياسية الحديثة بدرجات متفاوتة، مع عجزهم جميعا (حتى في "الإسلام الديمقراطي" أو "الإسلام لايت") عن تحقيق القدر نفسه من "التطبيع" مع المذاهب الإسلامية الأخرى. وهو ما جعل العلاقة بين المذاهب الإسلامية يغلب عليها البعد الصدامي الطائفي الذي يجد تمظهره الأسوأ والأكثر دموية في الصراعات السورية واليمنية والعراقية.
إنّ إنتماء الإسلامي إلى "أهل السنّة والجماعة" ليس مجرد انتماء إلى أحد المذاهب الفقهية الأربعة المعتبرة عند أهل السنة
"فقط"، بل هو انتماء إلى نسق عقدي عام، وهو انحياز إلى رؤية تاريخية وأنساق معرفية شكّلتها علاقات صراع "سياسي" ومعرفي وإثني متداخلة. ولكنّ الأخطر في التسييجات المذهبية هو تأسس "المضامين" الخصوصية لكل وعي "مذهبي" على ما يُمكن تسميته بـ"العقائد الفرعية" (في مقابل أصول الدين)، وهي عقائد لا يمكن الاحتجاج لها بالقرآن إلا بتأويلات بعيدة. ولذلك تستند أساسا إلى الأحاديث النبوية وإلى سير السلف الصالح داخل المذهب، تلك الأحاديث والسير التي تعكس ببنية "ذهنية" ما قبل حداثية يتداخل فيها المعرفي مع المخيالي، والمقدّس مع المدنّس، والديني مع الدنيوي بطريقة تجعل منها "أنساقا دوغمائية مغلقة". ولذلك ستكون أية محاولة لتحيينها عاملا لاوظيفيا يعرقل كل محاولة لتجاوز "المواقع المذهبية" إلى مواقع المواطنة.
لا شكّ في أنّ الإسلام السياسي بنسختيه الشيعية والسنية الإخوانية أو السلفية خاصة، قد عجز –بصرف النظر عن مقدماته النظرية وادعاءاته الذاتية- عن الخروج من ربقة المعارف "المتمذهبة"، بل لم يسلم حتى من إعادة تشغيل مخيالها ورهاناتها التي وجهت الصراعات داخل المجتمعات التقليدية. وهو ما جعل الأغلب الأعم من تلك الخطابات داخلا في باب "ما يكتبه المرء لأهل ملته" وبعيدا عن أن يكون مدخلا لتقريب الشقة بين "الإسلاميين" و"المسلمين" داخل مذهبهم وخارجه، وبين "الإسلاميين" والمواطنين داخل الدول القُطرية بصرف النظر عن دياناتهم. فالمتلقّي يظلّ في كل الحالات "شيعيا" أو"سنّيا" قبل أن يكون هوية "مواطنية" أو عقدية غير متمذهبة وذلك بصرف النظر عن مجهودات بعض الحركات الإسلامية لجعل دال "الإسلام" في خطاباتها يتأقلم مع الدولة-الأمة وخطابها "الوطني" من جهة أولى، أو يطابق –من جهة ثانية- الإسلام بما هو استعارة "نظرية" كبرى أكثر مما هو إحالة إجرائية "واقعية".
لا يمتلك الإسلامي مشروعية الحديث "المعياري" عند توجهه إلى "المسلمين" وغيرهم إلاّ من داخل منظورات "مذهبية"، أي من داخل إيديولوجيات مشتقّة لا تعي نفسها بهذه الصفة، بل تقدّم نفسها باعتبارها إعادة إنتاج "أمينة" للموقع "النبوي". ويخفى عليه أنه لا يمكن "أبدا" إعادة إنتاج النبوة الخاتمة إلاّ في مستوى المخيال والطوبي والدعوي.
ولكنّ هذه الاستحالة لم تمنع الإسلاميين -قديما وحديثا- من المحافظة على "وهم/طوبى" تحيين التجربة النبوية في التاريخ. فبدون هذا "الوهم التأسيسي" (وهم القدرة على مطابقة فترة النبوة وإمكان تحيينها في التاريخ) لن يكون "للمشاريع الإسلامية" أي معنى ولا أية قدرة تجييشية للجموع المنهكة بفعل سياسات التحديث الفوقية الفاشلة.
ختاما، قد يكون على الإسلاميين (وتحديدا أولئك الذين قبلوا بالعمل القانوني ضمن "الدول الوطنية" وليس على هامشها أو ضدها) أن يحاولوا تدبر العلاقة بين الثالوث التالي: إسلامي/مسلم/مواطن بطريقة مختلفة عن الطرائق السائدة. فالمسلم ليس هوية دينية ناقصة لا تكتمل إلا بالتحول إلى "إسلامي" يعيش غربته إما منكفئا على نفسه أو مفجّرا لها، كما أن المواطنة ليست هوية دينية تنافس الدين أو تطمح إلى تولي وظائفه، بل هي هوية قانونية وترسانة مفهومية ومؤسساتية تعمل على إدارة الاختلاف من منظور أفقي وليس من منظور تراتبي عمودي يعيد إنتاج التراتبيات الدينية التقليدية الخطرة.
إنّ نجاح الإسلاميين في إدارة علاقتهم بالمسلمين (داخل المذهب وخارجه) وبالمواطنين (وإن خالفوهم المذهب أو الديانة) هو خطوة مهمة لترسيخ ثقافة المواطنة والتعايش بين الأهالي، كما أنه خطوة ضرورية للانعتاق من نَير المذاهب التي تكاد تتحول عند أتباعها إلى ما يشبه "الديانات" المستقلة التي لا يتجاوزها الحق إلى غيرها حتى داخل نفس الأمة. وبذلك سيساهم الإسلاميون في "تمدين" الخطاب الديني و"أنسنة" منظوراته و اختياراته ورهاناته بفتحها على البعد "الملّي" في لحظة معرفية أولى، وعلى البعد المواطني في لحظة تالية. ولكنّ هذه المراجعات لن تكون سهلة لأنها تحتاج إلى تعاون حقيقي بين الإسلاميين والعلمانيين، كما أنها ستكسر الكثير من الصور النمطية وستدفع بالصراع إلى مداراته الطبيعية التي تطلب تحرير الإنسان في الداخل والتحرر من التبعية للخارج. وهو ما يعني أنها ستكون تهديدا جديا لمصالح المركز الغربي ووكلائه المحليين، تلك المصالح التي تعمل أغلب الأنظمة الحاكمة على حمايتها مهما كانت كلفة ذلك بشريا واقتصاديا.