تمثّل المغرب نموذجا متميزا على أغلبية الأنظمة العربية (ربما تفضلها تونس فقط) على صعيد المسار الديمقراطي؛ فهنالك تعددية سياسية، وتداول للسلطة على صعيد الحكومة، وانتخابات على درجة معقولة من الاحترام والمصداقية، وأحزاب سياسية متنوعة أيديولوجيا وسياسيا.
وإذا كانت الإرهاصات الديمقراطية المغربية سبقت الربيع العربي (2011)، إلاّ أنّ العاهل المغربي التقط أيضا تلك اللحظة، وأجرى تعديلات دستورية، وأعطى سندا قويا لتدوير السلطة، ومنح الفرصة للمعارضة الإسلامية بتسلم مقاليد الحكومة، وتعايش معهم، خلال تلك الفترة.
هذه المعطيات كانت تدفع إلى اعتبار النموذج المغربي علامة مميّزة في الواقع العربي، بخاصة مع بروز أجندة "الثورة المضادة" والانقلاب على لحظة التحرر السياسي لدى الشعوب، إذ بدت المغرب في "كوكب" آخر مختلف عن العالم العربي، وأخذ كثيرون – ونحن منهم- يتغنون بالتجربة الذكية، التي اجتازت منعطفات خطيرة وحقول ألغام انفجرت بدول عربية أخرى!
كل ذلك صحيح، لكنّه لا ينفي حقيقة نحاول عادة التحايل عليها، تتمثّل في أنّ مفهوم الديمقراطية في المغرب ما يزال جزئيا وشكليا؛ إذ تحتفظ مراكز القوى الأخرى البيروقراطية المرتبطة بالسلطة بنفوذ واسع وكبير، بينما يقتصر دور الحكومة على إدارة الحياة اليومية ومواجهة المصاعب الاقتصادية، ومدى سلطة رئيس الوزراء محدود ومضبوط بقوة من قبل المؤسسات العميقة الأخرى في الدولة.
مع ذلك تعايش الإسلاميون (شذّ عن ذلك جماعة العدل والإحسان، التي تصرّ على تغيير قواعد اللعبة في المغرب)، وقبلوا بـ"المعادلة" واكتفوا بـ"اللعبة الصغيرة"، تاركين "اللعبة الكبيرة" لمؤسسات الدولة الأخرى، لما يتحلى به حزب العدالة في المغرب من قدر كبير من البراغماتية السياسية، والبعد عن أيّ صدام أو مواجهة محتملة مع "المخزن" (العرش).
بالرغم من كل ذلك، بدت مع الانتخابات الأخيرة (تشرين الأول 2016) نوايا واضحة من قبل الدولة بإفشال الإسلاميين، وتحديدا رئيس الحكومة السابق، عبدالإله بن كيران، وعملت ماكينة الإعلام الموجّه على شيطنتهم والتأثير على الانتخابات، إلاّ أنّهم – أي حزب العدالة- نجحوا، وتمكنوا من هزيمة الأحزاب الأخرى، بما فيها الأصالة والمعاصرة المدلل في أروقة الدولة.
لم تنته اللعبة عند ذلك، إذ تمّ إجهاض جهود ابن كيران في تشكيل الحكومة، خلال الخمسة أشهر الماضية، عبر تمنّع الأحزاب وطرحها شروطا معقّدة، ثم تمّ إعفاؤه والطلب من الرجل الثاني في الحزب (وهو بالمناسبة أحد أبرز منظّريه وقياداته البراغماتية)، سعد الدين العثماني، بأن يقوم بتشكيل الحكومة، بدلا من زعيم الحزب.
الأمر بدا لي محيّرا في البداية، فإذا كان زعيم الحزب عجز عن تشكيل الحكومة، فإنّ اللعبة تنتقل إلى الأحزاب الأخرى القادرة على تشكيل ائتلاف أغلبية، أو يتم إجراء انتخابات نيابية مبكّرة، لكن أن يعفى ابن كيران ويكلف العثماني من الحزب نفسه، كانت هذه هي القصة الغريبة؟
قرأت وسمعت تفسيرات متعددة، بعضها ذهب نحو فرضية "الشخصنة"، أي إنّ ابن كيران نفسه أصبح مستهدفا من قبل الأحزاب والدولة، لأسباب متعددة، ومنها فرضية محاولة ضرب الحزب من الداخل عبر صراع الأجنحة وتغليب شخصيات على أخرى، والثالث يتمثل في الخشية من أسهم ابن كيران التي ارتفعت في السنوات الأخيرة من جهة، وتصريحاته التي تنتقد القوى المتنفذة في الدولة من جهة ثانية، ونظافة يده وابتعاده عن الفساد، ما يجعله رمزا شعبيا من جهة ثالثة.
ستختبر الأيام القادمة الفرضيات السابقة، لكن ما كشفته هذه التطورات، وما حاولنا التحايل عليه سابقا، وتجنب الاعتراف به، عبر التحايلات الشكلية والسطحية، أنّ هنالك فرقا بين ديمقراطية حقيقية عميقة مرتبطة ببنى ثقافية ومؤسسية وسياسية متقبلة لها، ولعبة هشّة مرتبطة برغبات وقرارات!