بصرف النظر عن تقييماتنا المختلفة لطبيعة الدور الذى أدّاه محسن مرزوق قبل الثورة وبعدها، من الصعب على المشتغل بالشأن العام في تونس أن يُنكر أهمية هذه الشخصية في ما حصل بعد 14جانفي2011. فمنذ أن قدمته الآلة الإعلامية الموروثة عن نظام المخلوع باعتباره "محللا سياسيا" و"خبيرا في الانتقال الديمقراطي" احتل محسن مرزوق موقعا مركزيا في الحياة السياسية، وتحديدا ضمن مكوّنات ما سُمّي بـ"العائلة الديمقرطية" التي يمكننا تعريفها انطلاقا من معطيين أساسيين: من جهة أولى، الموقف السلبي والصدامي مع الإسلام السياسي ومع حلفائه من القوى العلمانية، ومن جهة ثانية الموقف "التصالحي"، بل "التحالفي" مع المنظومة الحاكمة قبل الثورة رموزا ومنطقا وسياسات وجهات وشبكات للرعاية المتبادلة.
ونظرا لخطورة هذه الشخصية العامة على مسار الانتقال الديمقراطي المؤسس للجمهورية الثانية (مع فهم الخطورة هنا على معنى الأهمية ومعنى الخطر)، ونظرا لدوره "اللاوظيفي" في أغلب المراحل التي مرّت بها تونس بعد الثورة، فإنه من المفيد للناخبين والناخبات في تونس أن نرسم لمحسن مرزوق صورة بعيدة قدر الإمكان عن نوازع "الشيطنة" أو "الأمثلة" التي تهيمن على السجال "السياسي" منذ رحيل المخلوع. ونحن على يقين بأنه من المحال أن نفهم "مشروع" محسن مرزوق (الذي أصبح الكتلة النيابية الثالثة عدديا بعد النهضة والنداء) ما لم نضعه في مسار سردية شخصية تزعم أنها تفيض على حدود ذاتها لتعبّر عن "جوهر" المشروع الحداثي في تونس.
ما قبل "المشروع" أو المسار النموذجي ليساري مرتد عن الصراع الطبقي
في عهد بن علي عرف محسن مرزوق أوّل انقلاباته على تاريخه "اليساري" في عائلة الوطنيين الديمقراطيين (ولكن هل كان ذلك فعلا انقلابا أم تطورا طبيعيا لمقولات اليسار الثقافويالوطدي وخياره الاستراتيجي في التحالف مع النظام النوفمبري باعتماد منطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي؟). فبعد أن كان "مناضلا" ضد النظام وخياراته الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة واللاّشعبية، أصبح عضوا في "المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأعلى" الذي كان من المؤسسات الصورية الموضوعة لتلميع صورة بن علي ونظامه. لقد وظف مرزوق رأسماله "النضالي" (أي قدراته التواصلية وشبكاته العلائقية) من أجل التدرج الطبقي داخل هوامش النظام (فلم يكن له من الحجم ما يجعله يحتل مواقع قيادية فيه)، ثم طوّركفاءاته "النضالية" المعادية للإمبريالية وانفتح على سياقات إقليمية ودولية كان واسطة العقد فيها مؤسسة فريدوم هاوس، مع تجربة خليجية في دولة قطر، وهي تجربة انقلب عليها بعد الثورة بحكم ارتباطاته بالمحور الاماراتي-السعودي المعادي للثورات العربية بصفة عامة وللإسلام السياسي بصفة خاصة.
بعد الثورة، عملت الآلة الدعائية "النوفمبرية" على تقديم محسن مرزوق-ومعه أغلب من سيكونون قيادات نداء تونس الوريث الشرعي للتجمع المنحل- باعتباره خبيرا في الانتقال الديمقراطي(بالطبع ليس من حقنا أن نسأل عن عدد "الثورات" التي شارك محسن مرزوق في ترشيد مسارها الانتقالي، فهذا سؤال لا معنى له عند منتحلي الصفات وعند من يقف وراءهم في غرف العمليات المتحكمة في صناعة الرأي العام وتزييفه)، وبعد أن صار من الشخصيات المعروفة إعلاميا، استغل مرزوق هذه الشهرة ليتحرك أساسا ضمن مسارات مدنية "موازية" للمسار التأسيسي الذي كرسته الإرادة العامة للناخبين. فكان أن رعت "المؤسسة العربية للديمقراطية" التي يتولّى أمانتها العامة مبادرة "المجلس الوطني التأسيسي المدني" ثم كان بعد ذلك من أكبر المشغّبين على أعمال المجلس التأسيسي والمشككين في أغلب قراراته (خاصة عندما تمس ولو من طرف خفي بالمصالح المادية والرمزية للمنظومة القديمة ونواتها الصلبة).
بحكم تضامناته المكشوفة مع المنظومة الدستورية-التجمعية الحاكمة في تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، لم يكن من الغريب أن يوجد محسن مرزوق إلى جانب الباجي قائد السبسي في الهيئة التأسيسية لحركة نداء تونس. بعد أن عبّر في رسالة مفتوحة لرفاقه القدامى في اليسار عن كفره بـ"القلم ثوري" -و"القلم" باللهجة التونسية تعبير مجازي يعني النشاط الذي يوفّر مورد الرزق- لم يكن مفاجئا أن يُشرف محسن مرزوق على الحملة الانتخابية للباجي قائد السبسي وريث "البورقيبية المريضة" بالمعنيين الصحي والسياسي. لقد كان "قلم السبسية" لحظة حتمية في مسار سياسي احتاج فيه النظام إلى تغيير نواته الصلبة تغييرا مؤقتا وذلك في اتجاه تغليب مكوّنات اليسار الثقافوي المرتد عن الصراع الطبقي، ذلك اليسار الذي لا وظيفة له إلا الحراسة الإيديولوجية لمصالح البرجوازية الفرنكفونية تحت شعار "حماية النمط المجتمعي التونسي" من مخاطر الظلامية والرجعية.
"المشروع" ...أو التجلي الأمثل لتناقضات "النمط"
بعد وصول الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج، اقتنع "صاحب الدم الأحمر" (فهو يؤمن أنّ "النهضويين" وحلفائهم في الترويكا، بل كل من يساندهم هم من أصحاب الدماء السوداء كما صرح بذلك في "اعتصام الرحيل" بباردو) أنّ وجوده في الفريق الاستشاري لرئيس الدولة هو مكافأة "مسمومة" أريد بها إبعادُه عن مراكز القرار في الحزب والحكومة. بحكم ماضيه "الانقلابي"(في علاقته بتاريخه وفي علاقته أيضا بالعالم السياسي في تونس وفي الخارج)، ورغم أنه كان بحسب عدة شهادات متطابقة من مهندسي التقارب بين النداء والنهضة، لم يجد محسن مرزوق أيّ حرج أخلاقي أو سياسي في الطعن في هذا المسار "التوافقي" وفي التشكيك في وظيفته الداعمة للسلم الأهلية، كما لم يجد أي غضاضة في العودة إلى مربّع الصراعات الثقافوية الهووية التي هيمنت على لحظات الأزمة خلال حكم الترويكا وخلال الحملات الانتخابية التشريعية والرئاسية.
لقد اختار محسن مرزوق أن يقود حملته الرئاسية المبكرة بخطاب رجعي ارتكاسي لا وظيفي، وهو خطاب متمركز "صوريا" حول الدفاع عن المشروع الحداثي الذي خانه "النداء" بعد تحالفه مع حركة النهضة. لو أردنا الوقوف على أهم خصائص "العقل السياسي" المتحكم في زعيم المشروع بعيدا عن تضخم ادّعاءاته الذاتية واختزالية مطاعن أعدائه، فإننا سنجد جملة من الثوابت التي يمكننا صياغتها مبدئّيا بالصورة التالية:
-الاندراج ضمن مشروع "حداثي" تُمثل البورقيبية تجسيده الأبرز مع اعتبار مرحلة بن علي مجرد انحراف جزئي وطفيف عن روح البورقيبية، وهو انحراف لا يخرج رموز تلك المرحلة من "العائلة الديمقراطية" ولا يجعل من نظام بن علي هو العدو الأول لقيم الجمهورية الثانية، إذ يقوم "مشروع" مرزوق على تثبت الإسلاميين في موقع العدو الأوحد لقيم الجمهورية و"مكاسبها" خاصةً في مستوى مجلة الأحوال الشخصية والحريات الأساسية.
-اعتبار الإسلاميين بمختلف تنظيماتهم بمثابة المقابل المفهومي والموضوعي للعائلة الديمقراطية مع إنكار أي نسب مشترك للإسلاميين مع "الدساترة" عبر الثعالبي. وهو طرح يحاول تثبيت الانقسامات التقليدية ويغذّي المخاوف من حركة النهضة بزعم تغوّلها وهيمنتها على القرار الحكومي. إننا أمام استراتيجية مدروسة يتكفل فيها "المشروع" بالتقليل من خسائر "العائلة الديمقراطية" وبالتالي من خسائر النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة، وذلك بتحميل النهضة كلفة المآلات الكارثية للخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يدافع عنها "المشروع" ذاته.
-الترويج للبورقيبية باعتبارها "الخطاب الكبير" الذي ينبغي لكل الخطابات "المؤدلجة" (إسلامية كانت أو قومية أو يسارية أممية) أن تكتسب شرعيتها منه ومن الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة. وهو ما يعني تأثيم أي خطاب يسعى لبناء نصاب سياسي جديد يتجاوز الدولة-الأمة ولو على أساس براغماتي لتقوية القدرات التفاوضية في زمن مُعولم تتحكم فيه التكتلات الاقتصادية الكبرى.
-وصم كل الخطابات وكل التحركات الاحتجاجية غير المتصالحة مع المنظومة الفاسدة بالتطرف وجعلها في موضع الدفاع الذاتي حتى لا يضطر النظام إلى تبرير سياساته "الوسطية" و"الحداثية" و"العقلانية" التي أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس. ولعل ضعف القوى الوطنية يتجلى أساسا في بقائها ضمن منطق الدفاع رغم تهافت الجملة السياسية لقوى الثورة المضادة ومنها "مشروع" محسن مرزوق.
-استعمال جملة سياسية تشكك في حصول ثورة بتونس وتطعن في الربيع العربي برمّته (وهو ما صرّح به محسن مرزوق مرات كثيرة كان آخرها حواره مع صحيفة القدس العربي بتاريخ 1/ 05/ 2017). ولا شك في أن هذه الاستراتيجية التواصلية تؤدي وظائف كثيرة تخدم "المشروع": استقطاب التجمعيين، منع انبثاق منطق جديد في إدارة الشأن العام، حماية مصالح المنظومة القديمة، ضرب شرعية القوى الثورية، طمأنة الحلفاء التقليديين للنظام القديم ...الخ.
-التعامل البراغماتي واللامبدئي مع المفاهيم المؤسسة للانتظام السياسي الحديث من مثل حيادية الدولة، عُلوية القانون، حرية الاعتقاد والتعبير، استقلالية السلطات، التعايش السلمي بين الأهالي، قبول الاختلاف الجذري في الفكر والاعتقاد ما دام تحت سقف القانون، الاحتكام إلى الإرادة الشعبية والقبول بنتائجها، الفصل بين الديني والسياسي، عدم توظيف الدين لأغراض حزبية...الخ. إنها جملة من المبادئ التي تحولت واقعيا عند زعيم "المشروع" إلى شعارات لا قيمة لها إلاّ في مدى خدمتها لمصالحه الشخصية والحزبية الضيقة.
-رهن القرار الوطني لقوى إقليمية ودولية معادية للثورات العربية، والتحالف معها على أساس إعادة التوازن للمنظومة القديمة وذلك عبر شيطنة أو تدجين كل القوى التي عدّلت جزئيا منطق الحقل السياسي في تونس بعد الثورة (النهضة، الحراك، اليسار الراديكالي). فمحسن مرزوق يعي جيدا أنه لن يكون مرشح القوى الثورية ولا مرشح القوى الإصلاحية، وإنما مرشح القوى البرجوازية "الرجعية" التي قد تضطر إلى المراهنة عليه وفرضه بقوة المال السياسي الفاسد في صورة غياب البدائل الأكثر مقبولية في الشارع التونسي.
مشروع إنقاذ أم مشروع احتراب أهلي؟
رغم كل العنتريات والمزايدات التي اشتهر بها زعيم "المشروع" محسن مرزوق، فإنه يبقى مجرد واجهة من واجهات المنظومة الحاكمة قبل الثورة وبعدها. ففي إطار تقاسم الأدوار بين مكونات "العائلة النيو-تجمعية"، يلعب "المشروع" دورا مهما على واجهتين: فهو من جهة أولى يلعب دور المستقطب للقواعد الغاضبة من خيارات نداء تونس وسياساته، ويمكنه أن يلعب في الاستحقاقات الانتخابية القادمة دور الحليف للنداء أو حتى البديل عنه إذا ما رأت "غرفة العمليات" ذلك. كما يلعب من جهة ثانية دور أداة الضغط على حركة النهضة وذلك بالمحافظة على جملة صدامية استئصالية قد تحتاجها "غرفة العمليات" إمّا لتقوية شروطها التفاوضية مع النهضة والدفع بها إلى التطبيع غير المشروط مع المنظومة، وإما لمواجهتها في صورة فشل سياسات الاحتواء والتوافق.
قد يكون من نافلة القول بأنّ "المشروع" (مثل الأغلب الأعم من الحوانيت الحزبية المنتمية للعائلة "الديمقراطية") يفتقد الخيال السياسي "الوطني" الذي يجعله قادرا على أن ينتج خطابا موافقا للقطيعة السياسية والآفاق التحررية التي ولّدتها الثورة التونسية. فأقصى ما فعله زعيم"المشروع" هو الاستعادة الحرفية للجملة السياسية للنظام السابق، تلك الجملة التي لا يخفى طابعها "الصدامي" سواء في علاقتها بالأفق الثوري أو حتى بالأفق الإصلاحي الرامي إلى تغيير منطق تقاسم السلطة وآليات توزيع الثروة(وتوزيع كلفة الأزمة البنيوية للنظام أيضا) بين مختلف فئات المجتمع التونسي وجهاته. ولا شكّ في أنّ المستقبل السياسي "للمشروع" يرتبط بمعطيات تتجاوز المستوى المحلي وذلك بحكم ارتباطه وظيفيا بالمحور المعادي للثورات العربية. ولكن لا شك أيضا في أنّ مستقبل "المشروع" يرتبط بمدى قدرة باقي الفاعلين السياسيين (بإسلامييهم وعلمانييهم) على التفكير خارج منطق التنافي والصراع الوجودي الذي حكم "الجمهورية الأولى"، تلك الجمهورية التي لا يُمثّل محسن مرزوق إلا ترسّبا من ترسباتها اللاوظيفية الخطيرة والمعرقلة لأي مشروع مواطني حقيقي.