يوم استثنائي هو يوم الجمعة في شهر رمضان في الضفة الغربية، ينهض الكثير من
الفلسطينيين في الصباح الباكر، يلبسون ملابسهم على عجل، ويخرجون مسرعين نحو حواجز قوات الاحتلال التي تحاصر
القدس، ما إن تصل إلى الحاجز حتى ترى عددا هائلا من المركبات وقد أفرغت سيلا بشريا يتجمهر أمام حاجز الاحتلال قرب مطار القدس- قلنديا، وما إن تصل حيث جنود الاحتلال الذين يتفحصون بطاقات الراغبين في الصلاة، من يبلغ الأربعين يمر ومن لم يبلغها تتم إعادته بالقوة، وهي المرة الأولى في التاريخ التي يتم فيها منع الناس من الصلاة حسب أعمارهم!
أما من يتم منعهم فيستخدمون مهارات أخرى من التسلق على الجدار الإسمنتي الفاصل بواسطة الحبال أو الحفر والزحف أسفله، ثم يبدأون بالجري في ماراثون مقدسي لا يثنيه شيء عن الوصول والصلاة والاعتكاف في المسجد
الأقصى، لا تهمهم ملاحقات قوات الاحتلال ولا إلقاء القبض على بعضهم واعادتهم، فيعيدون الكرة عشرات المرات حتى ينجحوا.
أما من بلغ الأربعين فمسيرته إلى المسجد الاقصى تختلف قليلا، فما ان تجتاز حاجز التفتيش وما يعرف بـ"المعاطات" بطريقة تفتقر إلى الكرامة والإنسانية، وتظهر عقليات مسكونة بعقد الجيتو والتفوق الديني والأبارتهايد والمس بإنسانية الشعب الفلسطيني، ثم تسرع حتى تقلك الحافلة المتجهة إلى القدس. وبالرغم من أنها حافلات ركاب عادية، إلا أنها ذكرتني بسيارة "البوسطة" التي تنقل الأسرى الفلسطينيين بين سجون الاحتلال، حرص سائقها على أن لا يتجه نحو المسجد الأقصى مباشرة وذهب مخترقا قرية لفتا حتى الحواف البعيدة لقرية دير ياسين، ثم استدار باتجاه التلة الفرنسية وحي الشيخ جراح، حيث المسجد التاريخي الجميل الذي يريح نفسك عندما تراه.
يعطيك السائق الإشارة بعدها بأن الوقت قد حان للنزول والهرولة لمسافة لا تقل عن الفي متر باتجاه الجنوب عابرين شارع محرر القدس صلاح الدين الأيوبي، وكأن رسالة تصل لعشرات الآلاف من السائرين على خطى صلاح الدين بأن تحرير المسجد يمر عبر درب شاق عبره قبلكم قائد مقاتل وسيل من المقاتلين، الذين لم يتزحزح إيمانهم ولم تفزعهم التضحيات، حتى حرروا القدس وغسلوا عار الأمة.
أكثر اللحظات إثارة عندما تصل أسوار القدس التي بناها السلطان سليمان القانوني وتنساب عبر "طريق المجاهدين".. نعم هي طريق المجاهدين، فتقترب من "طريق الآلام" حتى تصل إلى الأبواب المباشرة لساحات المسجد الأقصى.
عشق القدس والمسجد الأقصى يدفعك إلى تلمس كل زاوية وكل تفاصيل ما تمر به عبر أسواقها ومساجدها وحواريها، حيث العقيدة والتاريخ والأديان والتضحيات والآمال والأحزان، في القدس عقدة الماضي وبؤس الحاضر وسحر المستقبل، عقدة الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ والسياسة والآثار والدين والسلم والحرب.
هي الجنة في ساحات المسجد الأقصى، هي الجنة بناسها وسيلها البشري الهادر التي لا تكاد تجد في ساحها موطئا لقدمك، هذا يصلي وذاك يذكر ربه وتلك تقرأ القرآن وغيرهم يتوضأون بماء (كأس) القدس الطاهر، وهؤلاء يتبادلون اطراف الحديث، وهاذان يعانقان بعضهما بعد أن فرقتهما الجغرافيا وقمع الاحتلال وجمعهما حب القدس والمسجد الأقصى.
تجول الساحات والمسجد القبلي ومسجد البراق والمسجد المرواني وتتجول حول مسجد قبة الصخرة والقباب المحيطة بها والتي كانت - وتحاول أن تستمر - كقباب مشعة للدين والعلم، وما هي إلا لحظات حتى تبدأ خطبة الجمعة، وأي خطبة وأي جمعة وفي أي مسجد وفي أطهر بقعة؟ حيث يسود صمت تنحبس له الأنفاس وتخفق له القلوب وتطير في صفائه الأرواح، ثم تقام صلاة الجمعة وتبدأ بعدها المحاضرات والحلقات والمؤتمرات، في تنوع فكري وسياسي لم يعد موجودا إلا في باحات المسجد الأقصى.
ينساب بعدها المصلون في حواري وأزقة القدس - بقديمها وجديدها- يتفحصونها ويتلمسونها ويتبضعون من تجارها، الذين ينتظرونهم من رمضان إلى رمضان، وبعد صلاة العصر يعود بعض المصلين الى قراهم ومدنهم، بينما يبدأ الفلسطينيون من الجليل والمثلث والساحل الفلسطيني والنقب بالوصول إلى المسجد الأقصى، ويبدأ الكثير من المصلين من أهالي الضفة الغربية في التوجه في حركة معاكسة إلى الداخل الفلسطيني، وتحديدا إلى مدن يافا واللد والرملة وعكا وحيفا وطبريا، يمرون عبر قراهم ومنهم التي تم تهجيرهم منها، يمرون عبر لفتا والمالحة وديرياسين والجورة وصطاف وقالونيا وعناية وساريس وغيرها؛ في رحلة للبحث عن الجذور ولتلمس طريق التحرير والعودة.
أكثر ما يثير الانتباه في مسير العودة إلى دير ياسين هو متحف "جوش قطيف"، وهو المتحف الذي يحفظ بقايا الحلم الصهيوني في قطاع غزة الذي حولته المقاومة الفلسطينية إلى ذكرى حطام، وهو يعطي مؤشرا واضحا على أن ما قام على الاغتصاب والمجازر سيتحول إلى ذكرى في المتاحف.
تقلك المركبة مسرعة عبر طريق يافا - القدس ومنطقة باب الواد، حتى تصل إلى محطة الباصات، وأول ما تصادفه في المحطة المركزية في تل أبيب هي تلك الجمهرة من الفيتناميين والروس والرومان والإريتريين والتايلنديين والإثيوبيين والسودانيين والمولداف، ويتبادر إلى ذهنك مباشرة بيت الشاعر أحمد شوقي:
(أحرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس)
أصبحت زيارة يافا وحيفا وعكا طقس من طقوس ماراثون القدس، فصلاة التراويح في مسجد يافا الكبير أو مسجد حسن بيك أو في مسجد الجزار في عكا أو مسجد الاستقلال (مسجد القسام) في حيفا لها معنى خاص لا يمكن أن تشعر به في أي مكان آخر، الصلاة في مساجد قاومت الاقتلاع وتعبر عن تجذر وأصالة العرب والإسلام في واقع يغتصب الجغرافيا ويصادر التاريخ ويحاول تشويه المستقبل لها معنى آخر، والطريف أن جمهور المغتصبين يتقاطر إلى بقايا ما هدمه المغتصبين الأوائل، باحثا عن راحة نفس أو تعبيرا عن تأنيب خفي للضمير، يعيش حالة تيه وبحث عن هوية لدولة ولشعب مصطنع، يبحث عن معمار عربي وعن الحمص والفلافل والخبز العربي.
يحين وقت العودة إلى القدس بعد الانتهاء من صلاة التراويح على الساحل الفلسطيني، تسير المركبة مسرعة إلى منطقة المصرارة في القدس، حيث مخابز كعك القدس المشهور الذي لا يغادر زوار المدينة إلا إذا حملوه معهم إلى عائلاتهم، ثم تنساب عبر الجمهور من باب العامود إلى المسجد الأقصى، فتصلي ما يشاء الله لك ان تصلي، ثم تعود إلى رام الله مع اقتراب وقت السحور، ليتسحر أطفالك من كعك القدس ولتغرس فيهم حكايتها وحبها، وإلى صلاة قادمة حتى تحرير وتطهير.