تقولب العقل العربي خلال فترات ما بعد حقبة الاستعمار؛ على القبول بالحكم الشمولي، والتسليم للحاكم المطلق، والمفكر الخارق، والمقاتل الجبار، والرياضي الأول، والمثقف العلامة، والجامع لكل الصفات ما دون الإله بقليل.
وشكلت حالة القمع العنيف والملاحقة في الرزق؛ هاجسا مستمرا لا يبارح تفكير العامة. ولم يستطع التحرر من حالة الردع تلك إلا بعض ممن هربوا خارج بلدانهم إلى بلدان فيها مساحة أكثر من الحرية واحترام حقوق الفرد، بينما لم يستطع غيرهم التحرر منها، بل وصل الحال في بعضهم إلى أن أصيب بحالة مرضية مركبة، يبرر من خلالها حقه بالعيش بحرية واحترام في الدول الحرة، بينما يرفض بشدة أن يعيش شعبه هذه الحرية في وطنه الأم. أما الحالة المرضية الأكثر غرابة؛ فهي التي تتجسد في الذين يعيشون حالة الردع تحت حكم المستبد، ويتحولون إلى أدوات لقمع غيرهم وردعهم؛ في حالة مرضية بالغة التعقيد والغرابة!
شكلت الثورة المعلوماتية وانتشار الشبكة العنكبوتية، وتعدد الفضائيات، فرصة لدق الجدران - التي ردعت العقل العربي - بمطارق المعرفة، وأدب الاختلاف، وحرية التعبير، وحق المشاركة السياسية، والعدالة الاجتماعية، والتوزيع المنصف للموارد الاقتصادية.. أحدثت هذه الثورة تصدعات مهمة في حالة الردع في العقل العربي، وشكلت مدخلا مهما للحراك الشعبي الذي تمت تسميته بالربيع العربي.
نجد أن الأحزاب المؤثرة أصبحت ترتعب من فكرة الفوز في الانتخابات. ففي كل العالم؛ تخوض الأحزاب المعارضة الانتخابات أملا بالفوز
تعتبر الكثير من النخب السياسية العربية أن الأوطان مزارع خاصة بها، وأنها مطوبة باسمها، وأن أي حديث عن الحريات والانتخابات الحرة والشفافة وتقسيم الموارد بعدالة؛ جريمة يجب أن يعاقب أصحابها. بل إن إجراء أي انتخابات تفوز فيها جهات معارضة؛ عبارة عن انقلاب يجب محاربته بشراسة، وأن وصول تلك الجهات بانتخابات حرة إلى السلطة التنفيذية هو أم الجرائم التي تستدعي عملا عنيفا بدون أي قيود أخلاقية، حتى ولو تمت الاستعانة بالقوى المعادية للأمة.
هذا الأمر شكل حالة من الردع في العقل العربي، فنجد أن الأحزاب المؤثرة أصبحت ترتعب من فكرة الفوز في الانتخابات. ففي كل العالم؛ تخوض الأحزاب المعارضة الانتخابات أملا بالفوز، بينما يشكل الفوز في الانتخابات أكبر كابوس للحركات المعارضة العربية، ولذلك نلاحظ أن الكثير من الأحزاب ارتدعت بعد التجارب الانتخابية العربية، وأصبحت تشارك بشكل رمزي في الانتخابات، وتترك الجمل بما حمل للقوى النافذة، بينما تقبل هي بدور الكمبارس.
لدى هذه الحركات حالة ردع في اللاوعي من فكرة الوصول إلى السلطة. فحتى لو فازت في الانتخابات، وحكمت، تستمر بالتصرف كمعارضة
وجدت هذه الحالة المرضية أسوأ تجلياتها من خلال استفحال خطر وجرائم الثورة المضادة في العالم العربي، ومع العجز في تطوير نمط تفكير وسياسة تثقيفية حرة ومبادرة، وفي عدم القدرة على تطوير خطاب إعلامي متحرر من حالة الردع تلك.. خطاب مبني عل فكر الحريات والإبداع وإطلاق التفكير والرأي الحر. فحتى حركات التغيير تعاني من ردع نفسها وأفرادها أيضا، وهذا مؤشر إضافي على حاجة تلك الأحزاب والحركات إلى إطلاق ثورة داخلية في التفكير، وفي آليات اتخاذ القرارات، حتى تستطيع الانتصار في معركتي الردع والتغيير التي ستخوضها لتحرير العقل الجمعي العربي من حالة الردع التي يسجن مستقبله فيها.