قضايا وآراء

ثورة بريطانية على نار هادئة

1300x600
قبل يومين ومع إعلان نتائج الانتخابات التشريعية البريطانية، كانت البلاد على موعد مع ميلاد إحدى زعامتين تاريخيتين. أولاهما احتمال ظهور مانيول ماكرون بريطاني ممثلا في جيرمي كوربن زعيم حزب العمال المعارض بكل ما يحمله هذا النموذج من دلالات على صعيد صدارة القضايا الحقوقية وتمثيل الشباب ومواجهة التيارات اليمينية. وثانيهما احتمال ميلاد مارغريت تاتشر جديدة ممثلة في زعيمة حزب المحافظين ورئيسة الوزراء الحالية تريزا ماي بكل ما تمثله من ميل نحو اليمين وتراجع لقضايا حقوق الإنسان وإرهاق اقتصادي للطبقات المتوسطة والدنيا.

خسرت تريزا ماي رهانها على هذه الانتخابات المبكرة التي دعت إليها بهدف الحصول على أغلبية مريحة, تمكنها من التفاوض من منطلق قوة للخروج من الاتحاد الأوروبي. 

ورغم حصول حزب الحافظين على أغلبية ضئيلة، فإن مستقبل ماي السياسي على المحك، إن لم يكن الانهيار، خلال الإيام القادمة. وذلك بسبب المعارضة الداخلية في حزبها لقيادتها غير الرشيدة للحملة الانتخابية وتحالفها مع حزب من أيرلندا الشمالية لتستطيع استكمال نصاب تشكيل حكومة. 

الرابح الوحيد إذن هو جيرمي كوربن الذي عزز من نفوذه داخل الحزب بزيادة مقاعده داخل البرلمان وردم الهوة بينه وبين المحافظين في وقت قياسي هي خمسون يوما، بعد أن كانت استطلاعات الرأي تتكهن بهزيمة منكرة له ولحزبه الأمر الذي دفع بماي لهذه المقامرة الانتخابية.

صعود كوربن وهبوط ماي بات أمرا محسوما الآن في الدوائر السياسية البريطانية. فخصوم كوربن من داخل حزبه الذين طالما طعنوه من الخلف عرفوا مدى قوته فانحسروا، وخصوم ماي انهالوا عليها بطريقة قد تؤدي لحجب الثقة عنها في النهاية. وأصبح السؤال الجوهري كيف سيتم ترجمة الصعود العمالي وانحسار المحافظين على السياسات البريطانية داخليا وخارجيا؟

الإجابة على هذا السؤال لم تعد مرهونة بتشكيل الحكومة الجديدة. وذلك لأن الجميع أقر بأن وجه السياسية البريطانية قد تغير. فانحيازات الشباب والطلاب مثلا وتصويتهم بكثافة جعل منهم رهانا غير تقليدي قلب كثيرا من المعادلات بعدما كان الرهان التقليدي لسياسيي الغرب على اليمين المعادي للمهاجرين. بالإضافة لتجديد دماء اليسار التقليدي الذي انزوى في السياسة البريطانية منذ أكثر من ثلاثة عقود بعدما أجهزت عليه تجربة مارجريت تاتشر في الثمانينات.

ذكرت في هذا المنبر العام الماضي أن هناك يسارا جديدا يتشكل في بريطانيا. هذا اليسار ربح مرحليا رهانه على الشباب والقطاعات الشعبية غير الفاعلة سياسيا حين وظفها في معركة الزعامة الحزبية في العمال والتي صعدت بشخص مثل كوربن من المقاعد الخلفية للحزب. وكان الحديث العام الماضي عن إمكانية استثمار الإستراتيجية ذاتها على نطاق واسع في الانتخابات التشريعية. وها هي الانتخابات قد برهنت على قوة هذا التيار الجديد.

الخيارات المتاحة الآن في بريطانيا تتراوح بين حكومة محافظين ضعيفة لا تستطيع تمرير كثير من القرارات في مواجهة معارضة عمالية شرسة تكبح جماح الميل نحو أميركا ترامب وأي خروج خشن من الاتحاد الأوروبي. والاحتمال الثاني هو إجراء انتخابات مبكرة مرة أخرى إذا تعذرت إدارة البلاد بهذه الطريقة. وحينها ستكون حظوظ كوربن بالصعود إلى رئاسة الوزراء بأغلبية مريحة أمرا غير مستبعد.

وفي كل الأحوال فإن هناك صفحة جديدة بدأت في السياسة البريطانية أو لنقل ثورة تجري على نار هادئة ستظهر نتائجها خلال الشهور والسنوات القادمة وربما بدأت تظهر ملامحها ولو بشكل محدود.

فهناك حالة من القلق لدى الأقطاب الاقتصادية الفاعلة سياسيا والتي تميل ناحية اليمين كما هو معروف مثل اللورد آلان شوجر العضو السابق في حزب العمال ورجل الأعمال الشهير والذي انتقد من انتخب حزب العمال واتهمهم بأنهم لا يعرفون على ماذا صوتوا. 

وهناك أيضا صفقة استحواذ شبكة فوكس الأمريكية اليمينية المملوكة للملياردير روبرت ميردوخ على شبكة سكاي نيوز المحلية وتخوف القائمين عليها من عرقلتها حاليا بعد أن عزز حزب العمال من موقعه داخل المعارضة.