قد لا يخطر ببال كثير من الناس أن تجدد كارثة
إعصار هارفي الذي ضرب هيوستون مؤخراً الجدل حول حرية التعبير، وأن يعاد من جديد طرح السؤال القديم المتجدد: هل لحرية التعبير من حد؟ ومتى يكون التعبير عن فكرة ما ممارسة لحق حرية التعبير ومتى يكون إساءة للآخرين وعدواناً عليهم يستوجب التنديد والمحاسبة؟ وكيف يمكن ضمان حرية التعبير للجميع دون تمييز، أم أن الناس في ذلك طبقات يتباينون في الحقوق؟
طفت قضية حرية التعبير إلى السطح مجدداً بعد أن نشرت مطبوعة
شارلي إيبدو الفرنسية الساخرة في عددها الأخير رسماً يظهر فيه ضحايا الإعصار الغرقى على شكل نازيين جدد مع يافطة كتب عليها "الله موجود"، بمعنى أن ما وقع لهؤلاء الناس من سكان ولاية
تكساس الأمريكية إنما هو عقاب رباني لأنهم من محبي هتلر وأتباعه. ولعل الصحيفة أرادت – ولكن أساءت التعبير – التنبيه إلى أن ولاية تكساس، ومدينة هيوستون بالتحديد، مرتع للعنصريين البيض.
أثارت الرسمة موجة عارمة من التنديد بالمطبوعة التي كان عشرة من رساميها قد تعرضوا للقتل على أيدي عناصر نسبت نفسها لتنظيم الدولة الإسلامية في يناير من عام 2015 بحجة أنها نشرت رسوماً مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والمفارقة التي يشير إليها الصحفي غلين غرينوالد في مقال نشره له موقع ذي إنترسيبت في الأول من سبتمبر 2017 أن المطبوعة حينما كانت تسخر من المسلمين ومن نبيهم صلى الله عليه وسلم كانت تلقى الدعم والتأييد من نفس الأوساط التي نددت بالصحيفة حينما سخرت من أهل تكساس "البيض"، وذلك أن تطاولها على الإسلام والمسلمين كان يعتبر حقاً مقدساً لها في ممارسة حرية التعبير بينما تطاولها على الأمريكيين البيض اعتبر انتهاكاً لحقوقهم الإنسانية وتماد باسم الحرية لا يجوز بحال السماح به.
يذكر غرينوالد في مقاله أنه كان واحداً من عدد قليل من الصحفيين والكتاب الغربيين الذين انتقدوا إصرار شارلي إيبدو على السخرية بالمسلمين، والذين نبهوا إلى أن التأييد الذي لقيته الصحيفة الساخرة، وخاصة موجة التعاطف العالمية بعد تعرضها للاعتداء، لم يكن ذلك دفاعاً عن حق حرية التعبير بقدر ما كان موجهاً ضد المسلمين، مستغلاً أجواء الحرب على الإرهاب. ولا أدل على ذلك، كما يقول غرينوالد، من أن كثيرين من زعماء العالم الذين اجتمعوا في باريس للتنديد بالهجوم الذي تعرضت له الصحيفة لا يبالون بحرية التعبير، بل ولا يسمحون بها في بلدانهم وتعج سجونهم بالصحفيين والكتاب والنشطاء السياسيين والحقوقيين الذين يعبرون عن أراء ومواقف لا تروق لهؤلاء الطغاة.
يذكر أن شعار "أنا شارلي" انتشر بعد الهجوم الذي تعرضت له الصحيفة، حتى أصبح شرطاً للحصول على صك براءة ممن ارتكب الهجوم. إلا أن الصورة اليوم باتت معكوسة تماماً، إذ يراد من الناس في كل مكان أن يعلنوا تبرأهم من شارلي إيبدو وما ارتكبته من جرم في حق أهل هيوستن.
وسرد غرينوالد في مقاله قائمة من الأمثلة على ردود الأفعال المتناقضة من نفس الأشخاص الذين دافعوا عن حق الصحيفة في السخرية من المسلمين حينما نشرت الرسوم المسيئة مقارنة بتنديدهم الشديد بها والمطالبة بمنعها عندما نشرت الرسم الذي يسخر من ضحايا الإعصار. ففي نظر هؤلاء كانت شارلي إيبدو "مرحة، ممتعة في إثارتها، شجاعة في رسومها، وأهلاً للتكريم ونيل الجوائز" حينما سخرت من المسلمين وأهانت مقدساتهم وانتهكت حرماتهم. ولكن حينما نشرت الصحيفة رسماً مسيئاً ينال من كرامة الأمريكيين البيض أصبحت "خسيسة وشريرة وحقيرة" وبات القائمون عليها "فاشلين وخونة".