نشرت مجلة "بوليتكو" الأمريكية مقالا للكاتب جوي فريمان، يشرح فيه الطريقة التي حاولت فيها الحكومة الأمريكية تجنيد
البوذية لمكافحة
الشيوعية، مشيرا إلى أن الأحداث الأخيرة في مانيمار تكشف عن أهمية الدين للسياسة في جنوب شرق آسيا.
ويقول الكاتب: "في الوقت الذي يحتل فيه البوذيون في مانيمار عناوين الصحف؛ نظرا للمعاملة الوحشية ضد مسلمي الروهينغا، فإنه من الجدير بالملاحظة كيف يصبح الدين قضية سياسية ملتهبة في جنوب شرق آسيا -بعيدا عن شهرته بالتأمل والخلوة أكثر من علاقته بالنزاعات الدينية، ورغم النظر إلى تأثير القومية البوذية على مانيمار، فإنها عادة ما تقدم بكونها ظاهرة جديدة، مع أنها أطلت برأسها من قبل وفي أزمنة الفوضى وغياب اليقين".
ساحة أيديولوجيات
ويشير فريمان إلى أنه "في أثناء الحرب الباردة أصبحت هذه المنطقة النقطة الساخنة للأيديولوجيات المتنافسة، وكانت البوذية في مركز هذا كله، ففي عام 1953، وبعد أشهر من تنصيب دوايت دي أيزنهاور قام نائبه ريتشارد نيكسون وزوجته بات في جولة حافلة لآسيا، شملت توقفا في بورما وكمبوديا ولاوس وفيتنام، حيث نظم له الفرنسيون جولة إلى الخطوط الأمامية، وليراقب أول الحروب في الهند الصينية وقصف مقاتلي فيت مين، ورغم شعوره بالإعجاب إلا أنه أبدى قلقا، فلم يحب الطريقة الأبوية التي يتصرف فيها الفرنسيون الذين تدعمهم الولايات المتحدة في الحرب ضد المتمردين الشيوعيين، وطريقة معاملتهم للحلفاء الفيتناميين، وتوصل إلى نتيجة، وهي فشلهم في العثور على بديل للقومية التي يؤمن بها أعداؤهم، وكانت الرحلة بمثابة تجربة شكلت رؤية نيكسون".
ويلفت الكاتب إلى أن نيكسون كتب في العام التالي رسالة لمساعد وزير الخارجية بيدل سميث، قال فيها: "كما تعرف، فإن لدي اهتماما عميقا ومتواصلا بشعوب جنوب شرق آسيا، واعتقادا قويا بأننا لم نفعل الكافي لنقنع الشعوب نفسها، بعيدا عن القيادة الحكومية من أن مثلهم وطموحاتهم تشبه لتلك التي نؤمن بها ونشترك بها".
ويعلق فريمان قائلا: "تبدو هذه المشاعر مضحكة في ضوء القصف الذي قام به على كمبوديا بعد عدة أعوام بصفته رئيسا، وأضاف أن هناك حلا للمشكلة الفرنسية قائلا: (أعتقد أن الخطة المرفقة ستسهم في التفاهم المتبادل)، وكان المقترح الذي أرفقه عبارة عن خطة تقدمت بها جمعية غير معروفة، وهي المؤسسة للفعل الديني أو (فرا)، ودعت إلى (عملية روحية مضادة في جنوب شرق آسيا)، وكانت الخطة تقوم على ضخ الأموال الأمريكية للمؤسسات البوذية، على أمل أن يتفوق الدين على العدوانية ضد الأديان التي يمثلها الاتحاد السوفييتي السابق، بشكل يؤدي إلى بناء (جدار زعفراني)".
فتنة الأمريكيين
ويبين الكاتب كيف افتتن المسؤولون الأمريكيون بالبوذية ولسنوات طويلة، مشيرا إلى أنه "في ظل الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفرنسيين في معركة دين بيان فو عام 1954، اكتشف الأمريكيون أن الفعل العسكري لن يكون كافيا وحده لاحتواء انتشار الشيوعية، وهي القصة التي يقدمها يوجين فورد في كتابه الذي سيصدر قريبا تحت عنوان (رهبان الحرب الباردة: البوذية والاستراييجية الأمريكية السرية في جنوب شرق آسيا)".
ويقدم فريمان قصة الوله الأمريكي القصير الأمد بالبوذية بصفتها قوة سياسية، ومحاولتها الهادئة لتقوية المؤسسات البوذية في المنطقة، في وقت كانت الأيديولوجيات الشيوعية تجذب إليها الملايين، حيث يقول فورد: "كان الدين هو الورقة التي استخدمتها الولايات المتحدة للتأثير غير العسكري والنفسي الطابع، والتأكيد للسكان المحليين التهديد الذي تمثله الشيوعية على مؤسساتهم الدينية"، لافتا إلى أن الغرب، الذي غرق في أفلام التجسس وقصص الإثارة، نسي الخطاب الديني الحماسي، ففي عام 1950، قال السيناتور الأمريكي إدوارد مارتن إن على أمريكا التقدم "قنبلة النووية في يد والصليب في اليد الأخرى".
ويقول الكاتب: "لأن الشيوعية ملحدة، فإن الدين يظل سلاحا قويا ضدها، وبعبارات مؤسسة حكومية كان الدين هو مفتاح للحرب الباردة، ولم تكن الجهود مقتصرة على البوذية وحدها، ففي عام 1946 دعا الرئيس هاري ترومان إلى حالة إحياء روحية ودينية عبر الأديان، وكما عبرت المؤرخة ديان كيربي، فإنه تمت إضافة كلمتي (في ظل الرب) لقسم الولاء عام 1954، بالإضافة إلى أن (وابل الدعاية المعادية للشيوعية والاتحاد السوفييتي في السنوات الأولى للحرب الباردة استهلكت معظم القادة المسيحيين، وبالتأكيد الذين كانوا يحضرون خطبهم)، حيث زادت نسبة مرتادي أماكن العبادة، وأقامت علاقات وثيقة مع الفاتيكان للتشارك في المعلومات الاستخباراتية حول النشاط الشيوعي في أوروبا، ويقدم فورد تحليلا لخطة محيرة، لكنها ليست شاملة للعمل مع المنظمات الإسلامية في الخارج".
وفاة بوذا
ويضيف فريمان: "بالنسبة للبوذية، فإن الانجذاب الأمريكي نحو استخدام الدين ضد الشيوعية تزامن مع الجدل حول مرور 2500 عام على وفاة بوذا، وولادة أول (مجلس) لأتباعه، الذي اجتمع لمراجعة تعاليمه، وقاد الحديث عن هذه المناسبة المهمة منتصف الخمسينيات من القرن الماضي إلى تزايد جديد في الوعي القومي البوذي، وأدى إلى إنشاء (الزمالة العالمية للبوذية)، وفي 25 أيار/ مايو 1950 عقدت الزمالة العالمية البوذية أول مؤتمر لها في سيلان في سريلانكا، وتحدث مسؤول أمريكي حضر المؤتمر (للأفضل أو الأسوأ ولدت منظمة سياسية دينية، ولها صلات دولية، وجاذبية قوية للجماهير في جنوب شرق آسيا)، وفهمت حكومات جنوب شرق آسيا الجاذبية القوية أيضا، وعبرت عن قلقها من ذوبان التقاليد البوذية مع صعود التفكير الشيوعي، ففي مذكرة لـ(سي آي إيه) تعود إلى آب/ أغسطس 1951، تشير إلى المزاج في سياق بورما، حيث لاحظت مثل بقية حكومات المنطقة انتشار الأفكار الشيوعية (إن سيطرة الشيوعية على بورما ستمثل فائدة استراتيجية لكل من الصين الشيوعية والاتحاد السوفييتي، وستقوم بدق إسفين بين الهند- باكستان وجنوب شرق آسيا، وتسهل عملية اختراق الشيوعية للهند الصينية والدول الأخرى في جنوب وجنوب شرق آسيا، ومن الناحية النفسية فإنها ستعطي زخما للزعم بأن الشيوعية هي قوة لا يمكن وقفها)".
ويورد الكاتب نقلا عن فورد، قوله إن انتصار ماوتسي تونغ في الصين دفع عددا من القادة الذين شعروا بالخطر لاتخاذ إجراءات فردية، ففي بداية عام 1950 قامت السلطات التايلاندية بتجنيد الرهبان من الريف لتعليم الناس احترام الأب والأم والملك والدولة، والتمييز بوضوح بين الشيوعية والبوذية، مشيرا إلى أن رئيس الوزراء البورمي في عام 1950 فيما بعد الاستقلال يو نو، قال إن التعاليم المنسوبة لماركس "لا تساوي إلا عشر ذرة من الغبار تحت قدم ربنا العظيم بوذا".
دور المخابرات
وينوه فريمان إلى أن "تلك كانت فرصة جيدة للولايات المتحدة لتتحرك، إلا أن المخابرات المركزية (سي آي إيه) كانت في الوقت الذي أرسل فيه نيكسون رسالته ناشطة في العمل مع الجماعات البوذية في المنطقة، وجمعت الوكالة معلومات أمنية حول المعابد الفيتنامية في بانكوك منذ بداية عام 1948؛ من أجل مراقبة ظهور شبكة محتملة من الشيوعيين، ولم تكن الوكالة قادرة على العمل علانية، وكان عليها التعاون مع منظمات خاصة، وقدمت دعما خفيا للجنة التي أنشئت حديثا (تحرير آسيا)، التي عرفت فيما بعد عام 1954 بالمؤسسة الآسيوية، وتواصلت المخابرات الامريكية معها من خلال اللجنة الوطنية لتحرير أوروبا، التي كانت تدير راديو أوروبا الحرة، وظلت المخابرات تقدم لها الدعم حتى انفضاح أمرها في نهاية الستينيات من القرن الماضي".
ويعلق فورد أن معظم الجهود الأمريكية في بورما كانت بمثابة المختبر للعمليات السرية البوذية، ووصلت لجنة آسيا الحرة إلى بورما عام 1954، وأسهمت بتقديم الدعم لاجتماع المجلس البوذي في الفترة ما بين 1954 إلى 1956، الذي قدم على أنه السادس منذ الاجتماع الأول.
ويقول الكاتب: "لأن رئيس الوزراء البورمي يو نو كان متحمسا بوذيا، فإنه طلب من الولايات المتحدة المساعدة في تنظيم المجلس الذي وصفه بالمجمع السادس، وكانت التحضيرات ستكلف 6 ملايين دولار، وتشمل بناء مغارة اصطناعية تشبه تلك التي اجتمع فيها المجلس الأول بعد وفاة بوذا، ولا تزال المغارة قائمة في يانغون العاصمة التجارية للبلاد، وهي مقصد السياح وجزء من كلية دينية".
ويقول فورد إنه بحلول عام 1962 أنفقت لجنة آسيا الحرة وما بعدها المؤسسة الآسيوية أكثر من 300 ألف دولار على آلة طابعة وأدوات تقنية، وأدت إلى نشوء دار نشر "ساسنا"، التي تعد أكبر وأفضل دور النشر البوذية في العالم، ووسعت المؤسسة الآسيوية نشاطاتها في الدول الجارة لبورما، بما فيها تايلاند وكمبوديا ولاوس، بشكل منح الولايات المتحدة منبرا وشبكة في العالم البوذي.
ويشير فريمان إلى أن "الولايات المتحدة استخدمت النهج الهادئ ذاته مع الدول الأخرى، حيث قدمت منحا للمؤسسات التعليمية وجماعات التنمية، وقامت بتوزيع الدعاية المضادة للشيوعية، وأكدت حضورها في المؤتمرات البوذية، ودعمت رحلات للرهبان (سانغها) للولايات المتحدة، حيث زاروا معالم مثل (إمباير ستيت)، وكان وراء هذا التفكير، كما قال مسؤول، هو "منح الفكرة لإمكانية وجود عدم توافق بين الشيوعية وبقية الأديان".
ويستدرك الكاتب بأن "الولايات المتحدة كانت قلقة رغم هذا كله من الظهور بمظهر من يستغل البوذية، وكشفت في عام 1957 مسودة تتعلق بالسياسة تجاه المنطقة (مهما كان، فإنه يجب ألا يظهر للقادة البوذيين على أنه (برنامج) للحكومة الأمريكية، لكن بصفته لفتة صداقة تهدف لدعم الجماعات البوذية والأمريكية)، إلا أن الأمريكيين شعروا بحاجة ماسة للعمل، خاصة أن الصين الشيوعية كانت تسعى لبناء علاقات مماثلة في المؤتمرات والتجمعات ذاتها".
ويلفت فريمان إلى أن "الخبراء في وزارة الخارجية ذهب أبعد من هذا كله في عام 1956، وأنشأوا (اللجنة البوذية)، حيث اكتشف الأمريكيون أن البوذية ليست دينا واحدا، بل تتكون من فرق عدة، وحتى الدول، مثل تايلاند وبورما، اللتين تشتركان بالحدود والتقاليد ذاتها تتشاركان تاريخا غير سعيد، وفيما يتعلق بلاوس، يشير فورد إلى إحصاء سكاني نظم عام 1958، وكشف أن نصف السكان هناك يتبعون التعاليم البوذية، ما يعني أن محاولات التأثير على البوذية ستكون لا معنى لها للكثير من السكان".
ويقول الكاتب إن "محاولات الولايات المتحدة لبناء علاقات مع القادة البوذيين تبدو بسيطة مقارنة مع الدور العسكري الذي أدته، وتدخلها في جنوب شرق آسيا خلال الحرب الباردة، ورغم نقاش فورد بأن محاولة تقوية المؤسسات المدنية لا يشير إلى أي فكرة شريرة عن الأمريكي الشرير الذي يخوض في مناطق لا يفهمها".
ويستدرك فريمان بأن "العلاقة الرومانسية القصيرة مع البوذية لم تكن ناجحة، حيث نجحت الشيوعية في السيطرة على فيتنام وكمبوديا وفيتنام ولاوس رغم الدعم الأمريكي، وفي كمبوديا قتل الخمير الحمر الرهبان الكبار وأرسل البقية إلى معسكرات الاعتقال، وفي بورما أطاح الجيش براعي البوذية يو نو عام 1962، وقررت الطغمة العسكرية مقاتلة الشيوعيين بالطريقة التقليدية، أي البنادق، وفي تايلاند ساعدت الولايات المتحدة في حملة قمع ضد اليساريين والشيوعيين، بشكل لم يعد معه عمل المؤسسة الآسيوية مهما".
ويخلص الكاتب إلى القول: "إن هذا التاريخ يذكرنا بالبوذية التي لا نعرفها، فهوس الغرب بالدين البوذي الروحي والصوفي غطى على الجانب السياسي، وأحيانا العنيف للدين، فنحن لم نلتفت لرهبان البوذيين الذين شجعوا عنف اليابان الإمبريالية وتوغلها في الصين، ولم نلتفت للرهبان البوذيين في سريلانكا، الذين قاموا بمباركة الجنود الذاهبين لحرب متمردي نمور التاميل، وصدمنا اليوم في مانيمار والرهبان القوميين الذين أثاروا شغبا دينيا، ورقصوا على ذبح المسلمين، والدرس هنا هو أن البوذية ليست عنيفة، بل على العكس، فالأديان كلها سلمية طالما لم تستخدم لخدمة الأهداف السياسية".