على غير العادة اتسمت انتخابات منصب المدير العام لليونسكو في هذه الدورة بالحرب النفسية والدعاية والبروباجاندا، وكل ما لا علاقة له بطبيعة اليونسكو التي تعمل على نشر العلم والثقافة والتسامح والتكامل الحضاري والتفاهم بين الشعوب والأمم. فمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، التي تتمحور مهمتها حول نشر ثقافة التقارب بين الشعوب ونشر السلام والحوار والحفاظ على التراث الإنساني، تلوثها اليوم الحرب النفسية والحملات المغرضة والدعاية التي تتناقض جملة وتفصيلا مع مبادئ منظمة الأمم المتحدة وقيم اليونسكو. فقد طغت بشكل لافت على هذه الدورة الخلافات السياسية بين بعض الدول العربية، وبالأخص دول الحصار ودولة قطر، وظهر ذلك جليا في مختلف فضائيات هذه الدول وفي الصحف وشبكات التواصل الاجتماعي، التي عجت بمختلف أنواع التهم والإعلام الهابط ما يندى له الجبين، في معركة أصبحت لا تمثل الثقافة التي تدافع عنها اليونسكو ولا الأخلاق ولا القيم الإنسانية.
في مقال سابق في هذه الصفحة شرحت عملية التشتت وعدم التخطيط وانعدام استراتيجية محددة ينتهجها العرب للفوز بمنصب المدير العام لليونسكو، فالمعركة على منصب المدير العام لليونسكو بدأت مبكرا بالنسبة للعرب، لكن دون تخطيط ولا استراتيجية ولا تشاور بين دول المنظومة العربية، والحصيلة ستكون التشتت وضياع الأصوات وإعطاء الفرصة للمرشحين الآخرين للحصول على أكبر عدد ممكن من الأصوات والفوز بالمنصب. التجارب السابقة مازالت عالقة في الأذهان والخاسر الكبير كان العرب؛ لأن عدم التنسيق والتنظيم سيؤدي إلى إضعاف الفرص للفوز. فهل سيتعلم العرب الدرس؟ وهل سيضعون استراتيجية للتنسيق والعمل المشترك مع التكتلات والمنظومات المختلفة للحصول على مناصب، وللحصول على مقابل عندما يعطون أصواتهم للآخرين. فالمؤتمر العام لليونسكو ومجلسها التنفيذي يتكون من أكثر من 200 دولة وبذلك يجب الاهتمام بكل هذه الدول إذا أراد العرب المناصب التنفيذية العليا. الإشكال الآخر الذي يطرح بخصوص منصب المدير العام لليونسكو هو الفضاء الثقافي والفني والفكري والعلمي العالمي وخصوصيته، والمقصود هنا هو ضرورة الاعتماد على النخبة المثقفة العربية في محاورة المثقفين في العالم ومحاورة الآخر؛ للوصول إلى أصوات الدول الأعضاء والمصوتة في اليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية. المشكلة بالنسبة للعرب تتمثل في أزمة المثقف العربي وفي الفجوة الكبيرة بين المثقف والسلطة وفي تهميش وإقصاء المثقف العربي من عملية صناعة القرار، ومن التجارب الفاشلة السابقة للعرب والمحاولات العربية خلال الثـلاث جولات الماضية، محاولة عام 1999 حين هزم الياباني ماتسورا السعودي الراحل غازي القصيبي، ثم في العام 2009 حين هزمت البلغارية بوكوفا المصري فاروق حسني، وأخيرا في العام 2013 حين فازت بوكوفا مرة أخرى بالولاية الثانية على حساب الجيبوتي رشاد فرح واللبناني جوزيف مايلا. في الدورة الحالية هيمنت الصراعات العربية العربية ووصلت إلى قمة السذاجة والانحطاط الأخلاقي، عندما وصلت بعض الدول إلى حد التشهير والقيام بالمستحيل للإطاحة بالمرشح القطري لرئاسة اليونسكو. فهذه الدول أصبح شغلها الشاغل هو الوقوف أمام نجاح الدكتور الكواري والعمل على مساعدة منافسيه.
غريب أمر بعض الدول العربية في تعاملها مع المرشح القطري الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري لمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو. بعض الفضائيات العربية خرجت عن أبجديات أخلاقيات العمل الإعلامي وعن مبادئ احترام المهنة والجمهور، وقامت بتقديم تهريج وشتم وتهويل وتشهير وكل ما لا يمت بصلة للعمل الإعلامي. فمنهم من قال: "أخذوا كأسا والآن يريدون الاستحواذ على اليونسكو" ومنهم من تعجب "من أمر قطر التي تمول الإرهاب الذي دمر المعالم الأثرية في العالم، هذه المعالم التي تعمل اليونسكو على المحافظة عليها وصيانتها". هناك دول أخرى مولت مظاهرات للتنديد بقطر ووصفها بالدولة الإرهابية.
من جهتها لم تفوت شبكات التواصل الاجتماعي لبعض الدول العربية لعمل المستحيل للتشهير بقطر وبشن حملات دعائية منهجية ومنظمة لفشل المرشح القطري للفوز بالانتخابات. جاءت العناوين في بعض الصحف المصرية والمواقع الخليجية على سبيل المثال لا الحصر صادمة، وحاملة لكم هائل من التهم، تتمحور حول شراء المال القطري للأصوات العربية منها والإفريقية، وعن ضغطه من أجل الحصول على المنصب، وعادت بعض العناوين لفوز قطر بتنظيم كأس العالم لكرة القدم دورة 2022 وما صاحبه من فضائح واتهامات. وعنونت بعضها "قطر تشتري اليونسكو بـعزومة" و"رائحة الدوحة الكريهة في انتخابات اليونسكو" وكتبت أخرى.. "مصر- نواب يطالبون بفضح دور قطر واستخدامها المال السياسي".. وكتب موقع اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري هاشتاج "أنقذوا اليونسكو من الإرهاب" يتصدر تويتر. بينما كتب موقع اليوم السابع "الرشاوى ومنظمات حقوقية تلعب ضد مصر في اليونسكو"، وعرف تقدم المرشح القطري حملة كبيرة ضده وضد بلده على مختلف وسائل الإعلام، وحتى مواقع التواصل الاجتماعي حيث تأسست صفحات فيسبوكية ضد مرشح قطر، وكذلك أطلقت "هاشتاغات" على تويتر، بعناوين كـ"أنقذوا اليونسكو من رئاسة قطر". قد يتأسف المرء لما وصلت إليه أوضاع العرب الذين أصبحوا ينشرون غسيلهم في عواصم العالم؛ مرة في نيويورك وأخرى في باريس.. ودول وشعوب العالم تسخر منهم وتستغل ظروفهم لابتزازهم. والأخطر من ذلك تلك الأوضاع التي وصل إليها الإعلام العربي من انحطاط وانحلال مهني وأخلاقي، حيث أصبحت بعض الفضائيات العربية وبعض الصحف والمؤسسات الإعلامية كتلك الكلاب الهائجة الضالة المسعورة، تعمل على تحنيط وتضليل الرأي العام العربي والعالمي، وتشويه صورة العرب والانبطاح التام للسلطة ولصاحب القرار الذي، مع الأسف الشديد، ينشر الفساد ويقود البلاد والعباد إلى الهاوية.
الشرق القطرية